قصة حسن مقلد والعقوبات الأميركية… وتلفيق الملفات!
ليس الطموح السياسي هو الممنوع فقط إذا لم تكن مستعداً للتعاون مع الولايات المتحدة، بل الطموح المالي أيضاً. لا يمكن أن تؤسس شركة مالية وتنطلق فيها ما لم تلتزم بالأجندة الأميركية. أتت العقوبات على حسن مقلد لتؤكد أن لا مكان لهامش حرية أو تمايز في ظل الأحادية الأميركية المالية…
يعمل حسن مقلد منذ أكثر من عقدين مستشاراً ماليّاً لأكثر من عشرين شركة استثمارية وصندوق تأمين ومصرف في دول الغرب، كما لعب دور الوساطة بين جهات عدة في لبنان في إطار إنضاج حلول لمشكلات عدة، أبرزها كيفية تعامل مصرف لبنان مع رجال الأعمال اللبنانيين الذين تقرر الولايات المتحدة وضعهم على لائحة العقوبات المالية. في لحظة معينة، وجد أن من حقه استحداث شركة خاصة بنقل المال والذهب، مستفيداً من قدرته المالية وعلاقاته في أسواق المال في الداخل والخارج، خصوصاً بعد تعثر القطاع المصرفي عام 2019. علماً أن لبنان كان يحتضن أكثر من عشرين شركة لنقل المال والذهب في الستينيات لم يبق منها الا خمس: اثنتان لا تملكان حسابات مالية سواء في لبنان أو في الخارج، وشركة «بوغوس» التي تحصر عملها في الذهب، وشركتا ميشال مكتف (95% من السوق) ورامز مكتف (5%).
مع وفاة ميشال مكتف تضاعفت الحاجة طبعاً، فسارع مقلد إلى فتح حسابات لشركته في كل من الولايات المتحدة وسويسرا وقطر والإمارات، فيما تعثرت الإجراءات في لبنان بسبب البيروقراطية المعتادة. أنجز المطلوب منه خلال ستة شهور فيما يتطلب التسجيل والترخيص والحصول على أذونات مزاولة العمل في الخليج وأوروبا والولايات المتحدة أكثر من عامين. وفي بيروت، استغرق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أكثر من تسعة أشهر في التثبت من كل تفاصيل «الأمن المالي» و«الأهلية الشخصية والمالية»، قبل أن يمنحه الرخصة. علماً أن مقلد تقدم من سلامة بأكثر من طلب، بينها رخصة لنقل الأموال والذهب التي حصلت على التراخيص اللازمة لمزاولة العمل فيما لم تكن شركة «تحويل الأموال» (وهو غير «تحويل الأموال») قد حصلت على الترخيص بعد.
حصلت الشركة على رخصتها في آذار 2021، وبدأت العمل في نيسان 2022 بوتيرة بطيئة، قبل أن ترتفع في حزيران 2022. وما إن انطلقت في عملها حتى بدأت تتعرض لحملات يقول مقلد أن مصدرها المحتكرون للسوق المالية. على رغم هذه الحملات، واصل العمل في كل من الخليج والعراق حيث أحرز تقدماً كبيراً. وبموازاة الحملات، دخل ثلاثة «أصدقاء» مفترضين على الخط: أخبره الأول أنه لا يمكن أن يعمل معه قبل الانتخابات النيابية ليعود لاحقاً وينصحه بتأجيل مشاريعه إلى ما بعد انتهاء عهد الرئيس ميشال عون. وأبلغه الثاني أنه كان يحبذ الاستثمار معه لكنه استشار «الأميركيين» فأكّدوا له أن وضع مقلد سليم مالياً، لكن، سياسياً، يمكن أن «ينقصّ رأسه» في أية لحظة، لذلك نصحه الصديق بالتعاون مع الأميركيين أو بإدخال أصدقاء للأميركيين معه حتى لا يخرجوه من السوق. «الصديق» الثالث اتصل قبل نحو أسبوع من إعلان العقوبات لينصحه ببيع الشركة فوراً.
في تموز 2022 تلقّى مقلد اتصالاً (موثقاً) من شركة سويسرية تدعوه إلى زيارة سويسرا لثلاثة أيام للاتفاق على الاستثمار في شركته بقيمة 15 مليون دولار. حوّل العرض إلى المراجع الرسمية اللبنانية للتدقيق في مصداقيتها فتبين أن صاحبها لبناني يحمل جنسية إسرائيلية وتربطه علاقات وطيدة مع الجيش الإسرائيلي، فتجاهل العرض بعد إبلاغ الأجهزة الأمنية اللبنانية وجهاز أمن المقاومة. بعد أسابيع تلقى اتصالاً مماثلاً من شركة نمساوية ترغب بالاستثمار في الشركة الناشئة، وتبين بعد التدقيق أنها أيضاً مملوكة من شركة إسرائيلية.
قبل العقوبات بأسبوع، كان مقلد في رحلة عمل بين الخليج وأوروبا، حين فاجأه أحد معارفه في دولة خليجية بطلب مشاركة ما يعرفه من معلومات مع «الموساد» إذا كان يريد فعلاً لشركته أن تحقق طموحاتها في لبنان والخارج، قبل أن يكرر آخر الكلام نفسه، في باريس، قبل بضع ساعات فقط من الإعلان عن العقوبات قائلاً له: «يمكن أن تصبح أكبر شركة في الشرق الأوسط، عليك الاختيار بين القمر والقبر، يمكن الوصول إلى الاثنين بالسرعة نفسها». وقد تكرر الاتصالان بعد العقوبات «بغرض المساعدة» و«إيجاد مخارج».
قبل العقوبات، أيضاً، كان لافتاً تعرض مقلد لحملة مركزة من ثلاثة مواقع إلكترونية لبنانية هي «درج» و«المدن» و«أساس ميديا»، ما بدا أنه «تحضير للأرضية». وفور الإعلان عن العقوبات انضمت وسائل الإعلام الأميركية التقليدية إلى حملة تجريم مقلد، والتهليل لمعاقبته. وإذا كانت آلية التبليغ عن العقوبات تقوم عادة على الاتصال بالشخص المعاقب قبل وقت قصير جداً من الإعلان الرسمي لإبلاغه بذلك أولاً، وإعلامه بهوية الشخص الذي يمكنه الاتصال به للمراجعة مستقبلاً، فإن شيئاً من ذلك لم يحصل مع مقلد. والمفارقة أن إشعاراً مرافقاً لنص العقوبات عليه، تغير ثلاث مرات حتى الآن على الموقع الرسمي للخزانة الأميركية. فبعد 24 ساعة أضيفت العبارة التالية: «هذا الإجراء لا يهدف إلى المعاقبة، إنما هدفه تغيير السلوك»، ثم تغيرت مجدداً لتصبح: «هذا الإجراء لا يهدف إلى المعاقبة، إنما إلى تحسين السلوك».
اللافت أيضاً، أن مصرف لبنان لم يصدر في تاريخ تعامله مع العقوبات أي بيان للتعليق عليها، إنما اكتفى بـ«إقفال الحسابات» بعد إعطاء «المعاقبين» أموالهم. أما هذه المرة فقد أصدر «مصرف سلامة» بياناً رسمياً أعلن بموجبه «تجميد» حسابات الشركة وكل الشركات التي يملك مقلد أكثر من 50% منها. وإذا كان الإقفال يسمح باستعادة الأموال، فإن «التجميد» حال دون ذلك، في لبنان وفي المصارف الأوروبية والخليجية، وهو ما يسمح لمقلد اليوم بالقول إن «الضربة اللبنانية كانت أكبر من الضربة الأميركية، إذ لم يسبق لمصرف لبنان أن تعامل مع أي من المعاقبين كما تعامل معنا». وهو ما دفع سلامة إلى التراجع خطوتين إلى الوراء لاحقاً، بتأكيده في مقابلة تلفزيونية على نقطتين أساسيتين:
1. «دققنا بكل الأرقام، ومصدر المال والشركة سليمة». وهو ما يترجم عملياً كالتالي: «تقنياً، كل ادعاء وزارة الخزانة في ما يخص عمل الشركة كذب».
2. «لا وثيقة أو حجة أو إثبات للقيام بالإجراءات، على رغم ذلك صادرنا الشركة وجمدنا حتى لا يقال هناك تعاط خاص»، وهو ما يؤكد مظلومية مقلد من الأقربين قبل الأبعدين.
هذا الجزء من مقابلة سلامة مع قناة «الشرق – بلومبيرغ» السعودية، ولم تستبعد مصادر متابعة لاحقاً أن الإشاعة التي بثتها قناة «العربية» عن نية الخزانة الأميركية معاقبة سلامة أيضاً سببها موقف سلامة في المقابلة حين ظهر كمدافع عن مقلد، خصوصاً أن ما من رابط يمكن التوقف عنده بين الحزب وسلامة غير مقلد. مع الإشارة إلى تخصيص «الحدث» برنامجاً مدته نحو ساعتين عن «مقلد وتمويل حزب الله» لم يتضمن معلومة واحدة.
قرار الخزانة الأميركية تبنى تغريدات خاصة بمواقع التواصل الاجتماعي، تفتقد لأي إثبات أو مستند أو غيره، لتجريم الشركة، تماماً كما يعاقب ريان حسن مقلد بناء على إشاعات عن «صلة» مزعومة بالمكتب المالي لحزب الله، و«تدريبه أكثر المطلوبين للولايات المتحدة في العالم»، أما راني حسن مقلد فعوقب لصلته بالشركة حصراً. وعند الوصول إلى حسن مقلد، تتضح التهم السياسية أولاً وأخيراً، فهو يعاقب لأنه «مستشار مالي واقتصادي للأمين العام لحزب الله» من دون أي إثبات طبعاً، وهو «على صلة يومية بمحمد جعفر قصير (الحج فادي) المطلوب للولايات المتحدة». كما أنه «مسؤول بحسب الإنترنت عن تمويل الحزب، وتسليحه ونقل التجهيزات والمال على مستوى المنطقة كلها، كما لديه تفويض من الحزب للتفاوض والتوقيع وشراء السلاح النوعي للحزب»، من دون إبراز أي دليل أبداً ودائماً. ليتبين في النتيجة أن الأمر لا يتعلق بالصيرفة كما يتخيل اللبنانيون أو نقل الأموال أو غيره.
لاحقاً وتزامناً مع بيان مصرف لبنان وتجميد حسابات الشركات، فاجأت لجنة الرقابة على المصارف مقلد بقرار يمنعه من فتح مكاتب الشركة للحصول على المستندات التي تطلبها هيئة الرقابة نفسها، وتم قطع الإنترنت الخاص بالتحويلات المالية، وانسحبت الشركة الأمنية المكلفة حماية مكاتب الشركة. تزامن هذا كله مع الفوضى القضائية نتيجة الاشتباك القضائي في اليوم نفسه، سمح للقوى الأمنية أن تعتذر بدورها عن القيام بواجباتها لجهة مؤازرة الشركة. ومع ذلك سحب مقلد «الداتا» كاملة ليقدم كل ما لديه إلى ثلاث لجان أنشأها مصرف لبنان، خلصت جميعها إلى وجود تطابق كامل في الأرقام بين ما تقدمه الشركة وما يقدمه مصرف لبنان، من دون وجود أية عمليات مشبوهة أو غير مصرح عنها. ولم يكن المطلوب من مصرف لبنان سوى إعلان رئيسة لجنة الرقابة على المصارف مايا دباغ عن نتيجة التحقيق، لكن دباغ آثرت السير على خطى المحقق العدلي طارق البيطار في ما يخص القرار الظنيّ في تفجير المرفأ؛ حيث لا يمكن الإعلان عن نتيجة تحقيق تنسف كل الإشاعات وشهادات الزور وغيره. في ظل معلومات عن زيارة السفيرة الأميركية دوروثي شيا لمصرف لبنان ثلاث مرات خلال أسبوعين لمتابعة هذا الملف بالتحديد، مطالبة بشطب الشركة فوراً، فيما كان المصرف واضحاً أن بوسعه تجميد الشركة واتخاذ بعض الإجراءات غير القانونية لكن لا يوجد أي مخرج قانونيّ يسمح له بشطب الشركة. في ظل قول سلامة لشيّا كلاماً واضحاً عن تدقيق مصرف لبنان عبر جميع شركائه الدوليين أكثر من خمسة أشهر بكل حركة مقلد المالية منذ أكثر من ربع قرن، من دون أن يبرزوا أية ملاحظة سلبية، تماماً كما سمحت الخزانة الأميركية في 25/10/2022 لمقلد أن يفتح شركة في الولايات المتحدة نفسها تحمل نفس اسم شركته في لبنان وتعمل في مجالي البورصة وإدارة الثروات والمال؛ حيث لا يمكن أن تعطي الخزانة الأميركية رقماً ضريبياً ومالياً لمقلد ويسمح له باستئجار مكتب وتكليف محام، ثم يساءل مصرف لبنان عن كيفية السماح له بالعمل. وإذا كان قرار العقوبات يتحدث عن عمله لأكثر من عامين مع الحزب، كيف سمح له بالعمل في الولايات المتحدة قبل أربعة أشهر فقط؟
هنا انتقلت السفارة الأميركية من ملاحقة مقلد مالياً إلى محاولة تلفيق ملفات أخرى، لكن التدخلات السياسية قابلتها تدخلات سياسية مضادة هذه المرة لإبلاغ كل من يعنيه الأمر في الأجهزة الأمنية والقضائية أن المضي قدماً في هذه الفبركة ممنوع، ليبقى لديهم سلاح التحريض والتشويه الإعلاميين حصراً.
غسان سعود- الاخبار