تخوف من صفقة دولية حيال المنطقة يدفع لبنان ثمنها..!
من الواضح انّ الظروف التي قد تدفع لبنان إلى انتاج التسوية المنتظرة لا تزال غير ناضجة، وتحتاج إلى بعض الوقت وكثير من الصدمات القاسية.
فالانطلاقة الدولية والتي بدأت تباشيرها مع انطلاق العام الجاري، عادت وخففت من اندفاعتها، لتقتصر على اجتماع باريس الخماسي من دون صدور بيان ببنود واضحة وحاسمة، وحيث تُركت ترجمته لبنانياً من خلال الجولة الباهتة لسفراء الدول المعنية. والفريق القضائي الاوروبي الذي وصل «بطنّة ورنّة»، عاد وأرجأ عودته الثانية، والتي كانت مقرّرة خلال النصف الاول من شباط الجاري، إلى موعد غير محدّد، ليبقى معه صندوق أسرار الفساد المالي مقفلاً ولو إلى حين.
والنزاع الذي دار حول ملف التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، عاد وخضع لتهدئة، بعدما جرت صفقة تسوية أدّت إلى اطلاق جميع الموقوفين وفتح ابواب مطار بيروت لتسفير أحد أهم هؤلاء الموقوفين. كل ذلك يؤشر إلى انّ التوقيت لم ينضج بعد أمام إنتاج التسوية المطلوبة. لكن هذا لا يعني ابداً أنّه سيجري وضع الملف اللبناني على الرف، خصوصاً انّ الشارع اللبناني يختزن كثيراً من الأزمات الخطيرة، والتي ستفرض ايقاعاً اسرع للتطورات.
فاجتماع باريس الخماسي أُقفل على خريطة طريق تمهّد لانعقاد اجتماع خماسي ثانٍ، ولكن على مستوى وزراء الخارجية هذه المرة كما جرى التفاهم. وهو ما يعني انّ الاجتماع المقبل والمتوقع قبل فصل الصيف المقبل، يجب ان يحمل براعم التسوية. وفي أي حال، فإنّ الأوساط الديبلوماسية المعنية قالت بحزم، إنّ اجتماع باريس الخماسي حمل رسالة واضحة مفادها أنّ لبنان ليس منسياً ولن يكون، وانّه لن يذهب «ضحية» النزاعات او حتى ثمناً للتسويات الاقليمية.
وكذلك، فإنّ الفريق القضائي الاوروبي يعيد «دوزنة» ملفاته وإيقاع تحرّكه، وسط اتجاه إلى أن يباشر في إبراز أنيابه انطلاقاً من جولته المقبلة.
اما النزاع الدائر حول التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، فصحيح انّه خضع لصفقة محلية ـ خارجية، إلّا انّ صدور القرار الاتهامي هو مسألة محسومة، وإذا لم يحصل ذلك بطريقة رسمية، فهنالك توجّه إلى أن يصدر عبر وسائل الاعلام، ولو من دون إطار رسمي ـ قضائي. وإلى جانب ذلك، ثمة قلق جدّي حيال انفلات الفوضى الاجتماعية، والتي من المرجح ان تنتشر بسرعة بسبب الاوضاع المالية والمعيشية والتعقيدات المصرفية التي طرأت. فمن المستحيل ان تستطيع القوى الأمنية تأمين الحماية لجميع الفروع المصرفية والمؤسسات المالية في حال استمرت الأزمة وبقي الإقفال.
ومع الارتفاع الجنوني للدولار والمؤهل لأن يستمر بلا ضوابط او سقف، فهذا سيدفع بأكثر من 55% من اللبنانيين، والذين اصبحوا تحت خط الفقر والفقر المدقع، إلى نشر الفوضى العارمة في الشارع، ما يجعل مهمّة القوى الامنية والعسكرية الجائعة اصلاً، صعبة جداً لضبط الوضع.
أضف إلى ذلك، المآسي والتشرّد اللذين أحدثهما الزلزال خصوصاً في سوريا، وحال الفوضى العارمة الحاصلة، ما يسمح بتسرّب عناصر ارهابية إلى لبنان والقيام بأعمال تفجير وقتل، وهو ما يعني انّ وتيرة الانهيارات التي ستتسارع خلال الايام والاسابيع المقبلة، ستفتح ابواب المخاطر والجحيم في وجه اللبنانيين. ذلك انّ لبنان الذي يرزح داخلياً تحت أنانية الطبقة السياسية وعجزها، وخارجياً تحت وزر النزاعات الاقليمية والكباش الاميركي ـ الايراني، قد يكون في حاجة إلى صدمة داخلية عنيفة، وإلى توافق خارجي على الدورالمقبل المطلوب منه.
لذلك، يخشى البعض من صفقة دولية حيال المنطقة، يدفع لبنان ثمنها. وللخشية التي يبديها هؤلاء لها ما يبرّرها تاريخياً، حيث دفع لبنان الثمن فلسطينياً في العام 1975، واسرائيلياً في العام 1982 وسورياً في العام 1990، فلِمَ لا يدفعه ايرانياً في العام 2023؟
ومنذ ايام، جرى افتتاح المقرّ الجديد للسفارة الايرانية في لبنان، وهو مبنى كبير جداً ويفوق حجم الأعمال الادارية والقنصلية للسفارة. ويعتقد المراقبون أنّه أُريد لهذا المبنى ان يرمز إلى مستوى النفوذ الذي باتت تتمتع به ايران في لبنان، وحيث كانت بدأت اعمال تشييده بالتزامن مع وصول العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا، ويوم ردّد المسؤولون الايرانيون أنّ ايران اصبحت على شاطئ البحر الابيض المتوسط، وذلك بعد الانتخابات النيابية عام 2018.
يومها كانت الحرب الدائرة في سوريا قد باشرت تحوّلها لمصلحة الرئيس السوري بشار الاسد، تحت وابل تحذيرات ملك الاردن من «الهلال الشيعي» الجاري رسمه.
لكن المعطيات تبدّلت لاحقاً، فالاردن الذي كان يخشى تكريس النفوذ الايراني المتصاعد، وجد في مصر شريكاً يشاركه القلق. أضف إلى ذلك، تناقض المصالح السياسية بين روسيا وايران في سوريا، بعكس التكامل العسكري والحربي. وبدا واضحاً انّ واشنطن لن توافق على نفوذ اقليمي بهذا الحجم لإيران، وانّ الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما لم يوضح الصورة تماماً لطهران بعد إقرار الاتفاق النووي عام 2015، ما ادّى إلى التقاط ايران إشارات خاطئة.
لذلك، ساعدت واشنطن اسرائيل في مهمّة استهداف مواقع نفوذ ايران في سوريا ولا تزال. وكان مفهوماً مقصد روسيا من السماح بالعمليات الاسرائيلية. وبعد غرق روسيا في حرب اوكرانيا، تمّ السماح بإدخال تركيا إلى سوريا بهدف التوازن مع ايران. وعلى الرغم من مآسي الزلزال، أبقت واشنطن على ضغطها في سوريا، وفتحت الباب امام تواصل خليجي مع دمشق، بهدف عدم إخلاء الساحة امام ايران، بعد انشغال اردوغان بمأساة الزلزال.
وفي لبنان، وبعد دراسة متأنية امتدت لسنوات، باشرت واشنطن بناء مقر ضخم لسفارتها الجديدة. وخلال المرحلة الماضية عمدت واشنطن إلى الطلب بتسريع مراحل تنفيذ مباني السفارة، بحيث ينتهي العمل فيها منتصف العام 2024.
ومن المفترض ان يتولّى تسيير اعمال السفارة «جيش» من الموظفين يناهز عددهم الألف، ثلثهم من الاميركيين، اما الثلثان المتبقيان فسيكونان من اللبنانيين والقاطنين على الاراضي اللبنانية. فعدا الخدمات القنصلية والمهمات الديبلوماسية والأقسام الاقتصادية والامنية والادارية، هنالك تفعيل للقسم المتعلق بالعلاقات العامة والثقافية.
من الواضح انّ هذا الحجم الهائل للسفارة الاميركية لا يشبه كثيراً من مقار السفارات الاميركية في كثير من عواصم العالم. والتفسير هنا لا يدخل فقط في اطار رمزية النفوذ، بل ايضاً في الدور الاقليمي الذي ستتولاه السفارة، وهو ما يحاكي إلى حدّ بعيد الدور الذي لعبته في فترة ما قبل اندلاع الحرب في لبنان عام 1975.
وتجدر الاشارة هنا إلى السفيرة الجديدة والمؤهلات والمواصفات التي تمتاز بها، والتي على اساسها جرى اختيارها من بين كثير من الديبلوماسيين الذين كانوا يرغبون في تولّي هذا الموقع، وبالتالي فإنّ هذا الاختيار يدل إلى شيء، والمقصود هنا نظرة واشنطن إلى المرحلة المقبلة تجاه لبنان.
وهذا مؤشر واضح على انّ لبنان لن يذهب «فرق عملة» لتسويات المنطقة. أضف إلى ذلك المؤشرات السياسية لاتفاق ترسيم الحدود البحرية اللبنانية ـ الاسرائيلية، والأهمية المعطاة لمنطقة الساحل الشرقي للبحر المتوسط. ويدور همس في الكواليس عن توجّه لتركيز الرقابة الصارمة على الشاطئ اللبناني، انطلاقاً من المهمّات التي كانت قد أُعطيت لقوات الامم المتحدة عبر البحرية الالمانية، على ان تساندها في هذه المهمّات بحرية قوات الحلف الاطلسي في حال احتاجت إلى ذلك. وهو ما يعني عودة واشنطن إلى الانخراط في خريطة نفوذ الشرق الاوسط والنزاعات القائمة حيالها، وعدم تركها مساحات فارغة امام الصين وخصومها، بعدما كان الرئيس الاميركي جو بايدن قد أوحى في بداية ولايته بالانسحاب من الشرق الاوسط.
والواضح انّ الحضور الديبلوماسي الاميركي الفاعل، والذي يتجاوز اهتمامه الحدود اللبنانية، ستواكبه رقابة بحرية وجوية، وهو ما يستوجب استقراراً في لبنان لا العكس.
لذلك، تستبعد الاوساط المراقبة اي تسوية على حساب لبنان، ولا حتى على حساب تركيبته الداخلية الحالية. وهي قد تكون ترى انّ الانهيارات الحاصلة والتي ستتسارع، قد تحدث الصدمة التي تفتح باب التسوية.
فلبنان الذي انهارت مؤسساته الرسمية وتحلّلت، إضافة الى اقتصاده، سيكون في حاجة إلى سلطة جديدة وفق مواصفات الشخصية الصارمة والقادرة على استعادة هيبة الدولة والإشراف على بناء مؤسساتها، بعيداً من الفساد والذهنية السائدة حالياً، إضافة إلى رئيس حكومة قادر على ان يشكّل رافعة اقتصادية واعمارية بمواكبة حكومة قادرة على العمل والانتاج بعيداً من المصالح الفئوية والحزبية والشخصية.
جوني منيّر – الجمهورية