بعد الزلزال الكارثة.. كيف صمد الأولاد في وجه الموت؟

كتبت جيانا موسى في “نداء الوطن”:حتّى اليوم وبعد مرور أكثر من أسبوعٍ على الزّلزال المُدمّر الّذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وهزّ العالم أجمع في السّادس من شباط الماضي، لا تزال بعض العناوين الصحافيّة التي تحمل بريقَ أملٍ، تتصدّر المشهد القاتم، وتثيرُ عدداً من التّساؤلات الطبيّة والنّفسيّة – رغم أهميّتها وبُعدها الإنسانيّ – كـ “إنقاذ أطفال من تحت الأنقاض” و”العثور على أرواحٍ ناجية من الزلزال الكارثة” و”انتشال أطفال ناجين وعالقين وأحياء من تحت أنقاض”. حتّى اللحظة، تجاوز عددُ القتلى الـ37 ألفاً، في حصيلةٍ غير نهائيّة، حذّرت الأُمم المتحدة من أنّها قد “تتضاعف”، إلّا أنّ حصّة الأسد من المآسي كانت من نصيب الأطفال.

 

ولعلّ السؤال الّذي يتردّد إلى الأذهان بعد مشاهدة أطفالٍ أبَوْا أن يستسلموا ويُسلّموا أرواحهم البريئة لبراثن الموت، يُختَصر بقدرة هؤلاء على التحمّل والطّريقة التي استطاعوا من خلالها أن يُحاربوا ليبقوا على قيد الحياة وهُم على بُعد أنملةٍ من الموت.

 

أثرٌ مدى الحياة

وعن صمود هؤلاء تحت الركام لساعاتٍ طويلةٍ ولأيام عديدة بعد وقوع الزّلزال، والبقاء على قيد الحياة، يشرح طبيب الأطفال الدّكتور روني صيّاد في حديثٍ لموقع “نداء الوطن” الإلكترونيّ أنّه “من الصّعب تفسير سبب صمود الأطفال في حالاتٍ مُماثلة، فالإنسان الّذي يبقى لثلاثة أيّام من دون مياه تكون حياته معرّضةً للخطر ولا يستطيع الصّمود؛ ولكن في الواقع، هناك أطفالٌ استطاعوا أن يبقوا على قيد الحياة لأنّهم شربوا من بولهم الخاصّ. أمّا الرّضّع فلا يستطيعون البقاء من دون طعام بسبب انخفاض معدّل السكر في جسمهم وافتقادهم للمخزون اللازم. لذا، لاحظنا أنّ هذه الفئة لم تستطع الصّمود، فيما وجدنا أنّ الأطفال الذين تم انتشالهم من تحت الأنقاض، ينتمون إلى الفئة العمريّة الأكبر سنّاً”.

 

أضاف صياد: “إنّ وضعيّة الولد الموجود تحت الأنقاض لها تأثيرٌ على بقائه على قيد الحياة؛ فإذا كان مرتاحاً، وغير مخنوق وغير مضغوط على صدره، تكون عندها نسبة بقائه حيّاً أعلى من سواه. وفي هذا الإطار يجب لدى انتشال طفل من تحت الركام إدخاله فوراً إلى المستشفى لإجراء الكشف الطبيّ والفحوصات اللازمة الخاصّة بالأملاح، مع ضرورة وضع كيس مصل والانتباه إلى نسبة المياه في جسم الطفل والتّأكد من أنّ وظائف الكلى لا تزال طبيعيّة، وكذلك إخضاعه للإنعاش اللازم لأنّ حرارة جسم الولد ستكون متدنّيةً، وبالتّالي ستكون حالته صعبةً وبحاجة إلى مستشفى وعناية طبية”.

 

وتابع قائلاً: “أمّا بالنّسبة إلى الرّضّع الذين صمدوا لساعاتٍ إثر الزّلزال، فيمكن أن يكونوا قد حصلوا على الغذاء اللازم من والدتهم، وهناك تخوّفٌ من أن يتركَ ذلك ضرراً في دماغهم مدى الحياة في حال نقص السّكر أو الأملاح في جسمهم لمدة طويلة، ما قد يؤدي إلى ظهور ورمٍ في الرّأس”، مؤكداً أنّ عمليّة الإنقاذ “الصحيّة” يجب ألّا تتعدّى الأربعة أيّام كحدٍّ أقصى، لأنّ بعد ذلك سيكون احتمال بقاء الطفل على قيد الحياة ضعيفاً جداً وإن بقيَ حياً قد يواجه تحديات ومشاكل وأضراراً صحية في المستقبل”.

 

وفي حين بقيت عالقة في الأذهان صورُ الأطفال “الأبطال” النّاجين والّذين تعلّقوا بالحياة وتشبّثوا بكلّ خيط أملٍ، لا يسعنا إلّا أن نُركّزَ على صحّة هؤلاء النّفسيّة وسبل تخطّي هذه الأزمة الّتي قد تكون لها تداعياتٌ في المستقبل القريب أو البعيد.

 

ذكرى مؤلمة

في هذا الإطار، أكّدت الدّكتورة في علم النّفس والمُتخصّصة في علاج الإدمان إيمان رزق في حديثٍ لموقع “نداء الوطن” الإلكتروني أنّ “الزلزال يُؤثّر على الكبار والصغار، وخصوصاً على الأطفال، لأنّهم لا يدركون ماذا يحصل حولهم، وهو يُسبّب لهم نوعاً من الصّدمة، لذا، يجب تأمين علاجٍ في مراكز للمعالجين النّفسيّين ولدى أطبّاء العلاج النّفسي للأولاد الذين يتمّ انتشالهم من تحت الأنقاض وتحديداً لمَن فقدوا أهاليهم، لأنّ للزّلزال تأثيراً كبيراً ليس فقط على صحة الأولاد الجسديّة، إنما أيضاً النفسيّة. لذا، يجب متابعة الأولاد نفسيّاً بعد إنقاذهم ومعالجتهم في المستشفيات وتبليغ أهاليهم بضرورة الذّهاب إلى مراكز خاصّة أو عند معالج نفسيّ أو طبيب نفسيّ، أو بكلّ بساطة قصد مراكز تجمَعُ طبيباً للأطفال مع معالجٍ نفسيّ وطبيب نفسيّ إضافةً إلى مدرّب نفسيّ وتعليميّ (Psycho-Education) لإعادة التأقلم بعد الكارثة، بهدف شرح ماهيّة الزلزال لأنّ الأولاد لا يعرفون ما هي طبيعته”.

 

أضافت: “نتحدّث هنا عمّا يُسمّى بـ Psycho-Traumatic Disorder، والذي يأتي بعد الصدمة وبعد انتشال الأطفال من تحت الأنقاض، وهذه الاضطرابات تصيب بشكلٍ أساسيّ الأطفال، إذ يُمكن أن يتخطّى الكبار هذا الموضوع، أما الأطفال فلا يُدركون ما الذي حصل ولا يعرفون ما معنى الزّلزال”، مشيرةً إلى أنّه يجب “أن نشرح لهم ما معنى هذه الكارثة الطبيعية وأن نتابعهم ونواكبهم ونحتضنهم لتخطّي هذه المرحلة الصعبة ولتجاوز اضطرابات ما بعد الصّدمة”.

 

وأكّدت الدّكتورة رزق أنّ “للزلزال تداعياتٍ خطيرةً على صحّة الأطفال مستقبلاً في حال عدم متابعتهم”، لافتةً إلى أنّ “التدخل يجب أن يكون مباشراً وأن يأتيَ بعد الانتشال من تحت الأنقاض وعقب العلاج الجسديّ، وفي حال لم يفقد الطّفل والدَيه، يجب أن تتمّ المتابعةُ النفسيّة للعائلة كاملةً في مراكزَ خاصّة أو عند اختصاصيّين من معالجين نفسيّين وأطباء نفسيّين وأطبّاء أطفال”، مشددةً على أنّ “للزلزال تأثيراتٍ مباشرة على الأطفال الذين قد يشعرون لاحقاً بدوار أو بعدم القدرة على النوم بسهولة، ما يُعرَف بالأرق، بسبب الخوف والذّكرى المؤلمة والصدمة. فهم لن يتمكنوا من التخلص بسهولة من ذلك، لذا، يجب التدخّل مباشرةً بعد الانتشال وعقب معالجتهم جسدياً”.

 

البحث عن نبض حياة

أمّا عن صعوبة عمليات الإنقاذ الّتي تمّت في خلال الأسبوع المنصرم، بعدما أوفد الدّفاع المدنيّ اللبنانيّ فرقاً للمساعدة في انتشال الضحايا ورفع الأنقاض والبحث عن ناجين، فأكّدت نائبة المدير العام للدّفاع المدنيّ الأستاذة ريما المرّ في حديثٍ لموقعنا، أنّ “في البداية أُعطِيَت التوجيهات اللازمة إلى الفرق التي كُلّفت بتنفيذ عمليّات البحث والإنقاذ والمسح الميدانيّ الشّامل في مدينة Elbistan التركيّة وفي جبلة السوريّة، والتي تألفت من أكثر من جهازٍ لدى الدولة اللبنانية (كفوج الهندسة في الجيش اللبنانيّ وفوج إطفاء بيروت والصليب الأحمر اللبنانيّ) إضافةً إلى ٢٠ عنصراً من الخبراء بالدفاع المدنيّ في مجال البحث والإنقاذ”.

 

وعن الصّعوبة التي تُواجه الدفاع المدنيّ لدى وجود أطفالٍ بين العالقين تحت الانقاض، أكّدت المرّ أنّ “فرق الإغاثة والإنقاذ باشرت بتقديم المساعدة منذُ لحظة وصولها وشاركت بعمليّات البحث تحت الرّكام من دون أي تمييز، سواء أكان النّاجون أطفالاً أو بالغين أو مسنّين، أو ذكوراً أو إناثاً”، لافتةً إلى أنّ مهمّة عناصر الإنقاذ تتمحورُ حول البحث بدقّة متناهية عن أي صوتٍ أو نبض لإنقاذ صاحبه، بصرف النّظر عن العمر أو الجنس أو هويّة صاحب هذا الصّوت، وعند العثور على أي جثة يتم انتشالها أيضاً من دون أي تأخير”.

 

واجب إنسانيّ

وأردفت قائلةً: “ليس هناك من أولويات في اتّخاذ القرار إزاء تنفيذ عمليّة الانقاذ من عدمها. بل إنّ المُنقذ ينفّذ واجبه الإنسانيّ من دون أي تردّدٍ ولا يتوانى عن الإسراع لإغاثة مَن يعثر عليه تحت الانقاض أو انتشال الجثة التي يجدها”.

 

ولفتت إلى أنّ “عناصر الدفاع المدني قد اختبرت تجارب مماثلة سابقاً لا سيّما خلال الحرب اللبنانية التي دامت ١٥ عاماً وتسبّبت بسقوط العديد من القتلى والجرحى. وقد تكرّر الأمر إبّان العدوان الاسرائيلي على لبنان خلال فتراتٍ زمنيّة مختلفة، حيثُ تم إنقاذُ العديد من النّاجين وانتشال العشرات من الجثث. وقبل اكثر من سنتين، وقع انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020 الذي خلّف دماراً شاسعاً في المرفأ والمناطق السكنيّة المجاورة. وقد شاركت عناصر الدّفاع المدني إلى جانب أجهزة الإغاثة الأخرى المحلية والخارجية، في عمليات البحث والإنقاذ والمسح الميدانيّ الشّامل في موقع الانفجار. ونفّذت عمليّات إنقاذٍ لمواطنين كانوا مُحتجَزين تحت الانقاض وتمّ انتشال الجثث، حيثُ بلغ عدد ضحايا الكارثة نحو ٢٢١ قتيلاً وتخطّى عدد الجرحى الـ ٨ آلاف”.

 

ولا يمكن إلّا أن نثنيَ على شجاعة الأطفال الّذين يتحمّلون أوزاراً ثقيلةً منذ صغرهم، ويعيشون أقسى الأيّام واللحظات بقلبٍ كبير مفعم بالحبّ للحياة.

 

إذاً هؤلاء الأطفال صمدوا وتشبّثوا بالحياة حتّى الرمق الأخير، وأثبتوا مقولة “من لديه نصيب في الحياة لا تقتله شِدّة”… وها هم يوماً تلو الآخر، ينهضون من جديد من تحت الركام، ويتفتّحون براعم أملٍ وسط الخراب والدمار… على أمل أن يتغلّبوا سريعاً على تداعيات الزلزال النفسيّة والصحيّة والجسديّة.

مقالات ذات صلة