كوكب الدوائر العقارية: 1.800 مليار ليرة سنوياً ضائعة

أراد مغترب لبناني قبل شهر أن يشتري قطعة أرض في مسقط رأسه بقيمة 400 ألف دولار أميركي، لكن بعد رحلة طويلة في الدوائر العقاريّة تبيّن أنّه يتوجّب دفع رسوم مرتفعة على هذه الأرض، لكن لا يستطيع مالك الأرض دفعها حالياً، ليُطمْئن الشاري، بسبب تعطيل الدوائر العقارية، ولو حالفه الحظّ وتسلّم إيصالاً فقد ينتظر أكثر من سبعة أشهر لكي يدفع، فتتعطّل “البَيعة” وتبقى هذه الدولارات خارج لبنان، وتبقى الرسوم معلّقة إلى ما شاء الله.

 

مرّ ما يقارب شهرين على إقفال أمانة السجلّ العقاري في بعبدا ويستمرّ هذا الإقفال فيما تتراكم المعاملات العقارية وتتعطّل حياة الناس، ليس فقط في بعبدا، بل في “كوكب العقارية” بكامله.

 

الابن العاطل “مسؤولية أهله”

المعاملات المتراكمة تقدّر بمئات الآلاف، والإضرابات مفتوحة، والمواطنون يقفون ذليلين في الطوابير لساعات وأيام وشهور، والموظفون حكَم عليهم عجز الدولة بالفساد أو بالجوع. وسط هذا كلّه يستمرّ مصرف لبنان بلعبة “كبّ الدولار” و”لمّ الليرة” من السوق للسيطرة على سعر صرفٍ خارج عن السيطرة، متغاضياً عن قصد أو عن غير قصد عن بابٍ قد يدرّ على خزينة الدولة تريليونات الليرات لا يتطلّب إلا تسيير المعاملات العقارية المتراكمة وتحصيل رسومها.

 

يرفض المدير العام لوزارة المالية والمدير العام للشؤون العقارية جورج معرّاوي الحديث عن التوقيفات الأخيرة، ويؤكّد أنّ الجميع تحت القانون، وأنّ الوزارة لا تغطّي أيّ فاسد مهما علا شأنه، لكنّه يضع يده على الجرح ويصوّب إلى حيث يجب حين يقول في مقابلة خاصة مع “أساس” إنّ “المجتمع عندما يواجه ابناً عاطلاً لا يلقي اللوم عليه، بل على والديه، وكذلك بالنسبة إلى الموظّف الحكومي، فالدولة هي المسؤول الحقيقي عن فساد أبنائها”، ويسأل: “هل محاربة الفساد تتمّ بالقوانين وتطوير الإدارة أم تكون عبر إغلاق الإدارة؟”.

 

يؤكّد معرّاوي أن لا حلّ لأمانة السجلّ العقاري في بعبدا، إذ لا إمكانيات لإعادة فتحها بموظّفين آخرين، لأنّه لا بديل ولا موظّفين على مقاعد الاحتياط، “فجميع أمانات السجلّ العقاري تعاني النقص، ولا إمكانية لنقل موظّفين من مركز إلى آخر كي لا يعمّ التعطيل جميع المراكز”.

 

في بعبدا وبيروت والمتن وجونيه كميّة مخيفة من العقود العالقة، و”هناك غرف كما هي، والناس تنتظر فقط أن تتسلّم الوصل من أجل الدفع”، على حدّ تعبير أحد أعضاء مجلس كتّاب العدل الذي يذكر، في حديث إلى “أساس”، أمثلة عن العرقلة الحاصلة، “ومنها عقد مسجّل في أيلول من العام الماضي لم يحصل المتعامل على الوصل حتى الآن، فيما الإجراءات المطلوبة كانت تحتاج إلى 4 دقائق فقط قبل الأزمة، ولو دفع المواطن وصلاً بقيمة 380 مليون ليرة لوفّر على مصرف لبنان رمي 10 آلاف دولار في السوق. ومثل آخر هو عقد تمّ تسجيله في شباط 2022 تمّ إصدار وصله في أيار، والسند في تشرين الثاني، فيما إتمام الإجراءات يحتاج عادة إلى 4 أيام”.

 

بالأرقام

لكن هل عدد الموظّفين في الدوائر العقارية يمكنه التعامل مع الضغط المتأتّي عن الكمّ الكبير من المعاملات اليوم، إذا ما غضضنا النظر عن الإضرابات المتكرّرة وأزمة الكهرباء والرواتب؟

يبلغ إجمالي عدد موظّفي الدوائر العقارية 687 موظفاً يتوزّعون كما يلي:

– مصلحة المساحة:

114 موظفاً، 19 أجيراً، و90 عاملاً بالفاتورة (وهم الموظّفون الذين يتمّ تعيينهم من دون امتحانات مجلس خدمة مدنية، ولا تتمّ ترقيتهم، وتوكَل إليهم مهامّ العمل على الكمبيوتر أو نقل السجلّات وغير ذلك).

– أمانات السجلّ العقاري والمديرية:

120 موظفاً، 63 أجيراً، و260 عاملاً بالفاتورة، ومن بين هؤلاء 40 موقوفاً، فيبقى ما يقارب 400 موظّف موزّعين على 17 مركزاً يتلقّون آلاف المعاملات يوميّاً.

 

عام 2017 كانت قيمة الرسوم العقارية 1,700 مليار ليرة تقريباً، وقاربت مجمل الرسوم في المراكز العقارية 1,788 مليار ليرة في عام 2022، و1,342 ملياراً في عام 2021. أمّا الرسوم الشهرية في المراكز، التي استطاع “أساس” إحصاءها، فتقارب 10 مليارات ليرة في مركز بعبدا المقفل، 9 مليارات ليرة في عاليه، و9 مليارات في الشوف، وما بين 12 و13 مليار ليرة في المتن.

 

زادت اليوم المعاملات بشكل لافت، بحسب معرّاوي، فمعظم الناس نقلوا عقاراتهم للاستفادة من التسجيل على سعر 1,500 للدولار، أو اشتروا عقارات للتخلّص من الأموال الكاش التي بين أيديهم، بعد فقدان الثقة بالمصارف، أو للاستفادة من الأموال المودعة عبر الشيكات المصرفية (تشيك بنكير)، وهو ما زاد من الضغط على الدوائر العقارية. فقد بات المركز الذي يقدر على أن يسيّر 100 معاملة في اليوم يستقبل 1,000 معاملة، مثلاً، فنتج عن هذا الوضع المستجدّ فوضى وضغط على الموظّف والمواطن وفتَح الباب للفساد والرشوة.

 

انطلاقاً من هذا الواقع يطرح أحد أعضاء مجلس كتّاب العدل حلّاً مؤقّتاً، فبدلاً من ضخّ الدولار في السوق، “لماذا لا يُمنح موظّفو القطاع العامّ بعض هذه الأموال، فـ 5 ملايين دولار كاش مثلاً قادرة على أن تعيد النبض للإدارات العامّة، وسيكون الموظفون مستعدّين للعمل 24 على 24 ساعة، أو لماذا لا يتمّ مثلاً منحهم نسبة من الرسوم التي يحصّلونها”، موضحاً أن لا داعي للاحتماء بالقانون، “فهل ما يفعله المصرف المركزي قانوني؟ أليست هذه الدولارات التي تتمّ المقامرة بها في السوق من أموال المودعين؟!”.

 

لكن ما هو الحلّ الجذريّ للفساد؟

يتحدّث معرّاوي عن مشروع الربط الإلكتروني بين كتّاب العدل والدوائر العقارية، الذي تمّ العمل عليه مع الفرنسيين، وكان يُعتبر أحد أهمّ الحلول لنزع فتيل الفساد من الدوائر العقارية، وتسريع العمل. وهو مشروع قانون منذ عهد وزير المالية غازي وزني، أي منذ عام 2020. وقد أرسله الوزير يومئذٍ إلى الأمانة العامّة لمجلس الوزراء، التي أرسلته بدورها إلى مجلس شورى الدولة، الذي أعطى رأيه في المشروع، وحوّله إلى وزارة العدل، وحتى الساعة وزراة العدل لم تعطِ رأيها فيه ليتحوّل إلى المجلس النيابي، “وهذا القانون بحدّ ذاته هو إحدى أهمّ وسائل مكافحة الفساد، إذ يحقّق المكننة اللازمة ويمنع الاحتكاك بين المواطن والموظّف”.

 

لتصوير أهميّة مشروع الربط الإلكتروني هذا، يشرح عضو مجلس كتّاب العدل التفاصيل لـ”أساس”: “بعض المستثمرين يقولون لكتّاب العدل إنّهم يشترون “سمَك بالمَيْ”، إذ يُضطرّ المستثمر أو الشاري إلى أن يبرم عقد الشراء لدى كاتب العدل وقلبه على يده، فنحن لا يمكننا أن نعرف ما هي المشاكل التي تواجه هذا العقار. وبعد محطّة كاتب العدل يذهب المستثمر في رحلة الألف ذلّ وذلّ. ومن السيناريوهات المحتملة أن يُفاجأ الشاري خلال التسجيل في الدائرة العقارية بضرائب على الأرض غير مدفوعة، أو ربّما أحدهم يريد أموالاً من البائع فيضع إشارة على العقار، أو ربّما حجز مصرف على الأرض… كلّ هذه التفاصيل لا يعلم بها كاتب العدل، ويمكن لقانون الربط الإلكتروني النائم في أدراج وزارة العدل أن يحلّها، من خلال ربط دوائر كتّاب العدل إلكترونياً مع المالية وأمانة السجلّ العقاري. هذا عدا عن مشكلة التخمين، إذ يُنجز العقد لدى كاتب العدل وفق تخمين تقريبي أو وفقاً لما يقوله صاحب العلاقة، وقد لا يتطابق مع قيمة التخمين الحقيقية في الدائرة العقارية، لأنّه لا إمكانية لكتّاب العدل للاطّلاع عليها، ويتحتّم في هذه الحالة إعادة إصدار وصل بفرق التخمين ما بين القيمة الموجودة في العقد وقيمة التخمين الحقيقية، وهو ما يعيد الرحلة إلى البداية ويطيل مسيرة التسجيل المتعثّرة أصلاً”.

ماذا عن التمويل؟

الحلول موجودة ومدروسة، لكنّ التنفيذ صعب، كما يؤكّد المدير العام للشؤون العقارية: “في عام 2014 طلبت قرضاً من البنك الدولي بقيمة 43 مليون دولار، ولأسباب عديدة، منها العراقيل التي واجهت انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، تعرقل القرض، ومع اقتراب موعد التسليم في عام 2019 وبعدما أصبح القانون في مجلس النواب، ألغى البنك الدولي القرض بسبب المماطلات الحاصلة من الدولة اللبنانية والأخذ والردّ اللذين استمرّا 5 سنوات”.

 

كان من المخطّط أن يتمّ تخصيص من أموال هذا القرض 20 مليون دولار لكلّ ما يتعلّق بالمعلوماتية والمكننة وتطوير الأنظمة، و10 ملايين دولار لتطوير نظام تخمين حديث خالٍ من الفروقات يعتمد نظام الـ NSDI ، وهو عبارة عن software متطوّر يكشف منطقة العقار والتجهيزات المحيطة به، عبر رقم العقار، بواسطة الخرائط الإلكترونية، مثل google maps، “لكن للأسف لم يُكتب لهذا البرنامج الحياة”. يتحدّث معرّاوي بحسرة عن واقع الدوائر العقارية، ويؤكّد أنّها الابن الثالث لوزارة المالية الذي لم يتمّ الالتفات إليه منذ عام 1926، فنرى أنّ أمين سجلّ عقاري صلاحيّاته أوسع من صلاحيّات مدير عامّ فيما راتبه مليونان ونصف مليون ليرة. ويضرب مثلاً بأمناء السجلّ العقاري في فرنسا الذين عادة ما يكونون سفراء، ثمّ يوظّفونهم في هذا المنصب، وتكون رواتبهم من أعلى رواتب الإدارة الفرسية، إذ تراوح بين 8,000 و15,000 يورو.

 

علم “أساس” أنّ مجلس كتّاب العدل حاول تمويل المشروع عبر الاتحاد الأوروبي، وخلال اجتماعه بـ أولفيي رئيس فريق الحوكمة والقطاعات الإنتاجية في بعثة الاتحاد الأوروبي، أبدى هذا الأخير امتعاضاً كبيراً ممّا تؤول إليه حال الدولة اللبنانية على الرغم من محاولات الدعم المستمرّ لتطوير السيستم فيها، وسأل حينئذٍ: “دفعنا 6 ملايين يورو من أجل كمبيوترات للعدليّة، فأين ذهبت الأموال؟ وأين هي تلك الحواسيب الآن؟”.

مسايرة الـ 1,500 في عزّ الأزمة

لا تقف المفارقات عند الكوكب العقاريّ، فالدولة منذ أزمة تدهور العملة الوطنية أمام الدولار، أي منذ عام 2019 حتى صدور الموازنة في 15/11/2022، كانت تتقاضى رسوم الطابع المالي على سعر 1,500 ليرة للدولار خلافاً للمرسوم الاشتراعي 67/67 الذي يقول أيّ عقد يتطلّب طابعاً مالياً قيمته 4 بالألف من قيمة العقد. ومنذ سنة 1967 تنبّه المشرّع لنقطة السوق الرائج، لكن في نفس اليوم الذي تنبّه فيه المحامي لؤي الحاج شحادة لهذه المخالفة وذكّر بوجوب تطبيق القانون، وذلك في 10 كانون الثاني 2022، قام وزير المال يوسف الخليل بتعليق العمل بقرار العودة إلى الـ 1,500، ضمن السياسة الضريبية الشمالية للدولة، واستمرّ هذا الأمر حتى إصدار الموازنة واعتماد سعر منصّة صيرفة لرسوم الطابع الماليّ.

 

على سبيل المثال، إبرام عقد بقيمة مليون دولار يوجب على صاحب العقد أن يدفع للدولة 4 آلاف دولار (5% من سعر الشقّة مثلاً) على أساس أنّ النسبة 4 بالألف، وهو ما يعني 6 ملايين ليرة على الـ1,500، فيما يكون المبلغ الحقيقي 120 مليون ليرة إذا احتسبنا سعر صيرفة على 30 ألفاً (السعر الذي كان سائداً في الفترة الماضية). يقول المصدر نفسه: “فلنتخيّل خسارة الدولة خلال كلّ هذه الفترة بسبب مسايرتها في معاملات كماليّة في عزّ انهيارها”.

 

إذاً لا حلول في الأفق، بل خطط جميلة على الورق، لكنّها معرقلة إلى أجلٍ غير مسمّى، والأكيد أنّ الالتفات إلى إدارات الدولة جميعها أصبح أكثر من ملحّ لإعادة النظر في الرواتب وتحسين وتطوير الخدمات المقدّمة إلى المواطن عبر أنظمة متطوّرة وحديثة وقوانين تسهّل حياة المواطن والموظّف وتمنع الفساد، وإلّا فستكون الدوائر العقارية والنافعة البداية.

 

نهلا ناصر الدين – اساس ميديا

مقالات ذات صلة