الحرمان من المياه وارتفاع أسعارها… يضاعفان معاناة اللبنانيين !

فاقمت أزمة انقطاع المياه أعباء اللبنانيين الذين يرزحون منذ العام 2019 تحت وطأة أزمة هي الأسوأ في تاريخهم، وتسبّبت بتغيير عادات بعضهم، ولاسيما تلك المتعلقة بالنظافة.

وتواجه عملية تأمين المياه للمواطنين بشكل منتظم عوائق عديدة، تسببت بها الأزمة المالية والاقتصادية التي يشهدها لبنان، والتي أدت إلى ارتفاع ساعات التقنين في التيار الكهربائي الذي تؤمنه مؤسسة كهرباء لبنان، وباتت ساعات التغذية بالتيار الكهربائي تقتصر على ساعة واحدة أو ساعتين في اليوم، الأمر الذي ترك أثرا سلبيا على تأمين ضخ المياه إلى الوحدات السكنية.

وأجبرت أزمة انقطاع المياه غالبية المواطنين على دفع فاتورتين إضافيتين، الأولى لشراء مياه الشرب، والثانية لتأمين مياه الاستخدام المنزلي، الأمر الذي أثقل كاهل الفقراء من بينهم، وأدى إلى تغيير عادات النظافة لدى البعض.

وقالت الطالبة الجامعية نور التي فضلت عدم ذكر اسمها “لقد أصبح المواطن في لبنان بلا رعاية، فهو مجبر على تأمين كافة حاجاته الأساسية بنفسه في الصحة والتعليم والكهرباء والمياه وغيرها، بسبب عجز مؤسسات الدولة عن القيام بواجباتها لأسباب مختلفة أهمها حاليا الأزمة المالية والاقتصادية”.

وأضافت “يستمر انقطاع المياه أحيانا شهرا كاملا والأزمة التي نشهدها حاليا ليست مستجدة، بل بدأت منذ أكثر من عامين. ولا نملك في مواجهتها سوى القيام بشراء المياه، ما يشكل عبئا إضافيا علينا”.

وتابعت نور “في ظل الظروف الحالية، كان علينا أن نقنّن ونوفّر في استخدام المياه بسبب ارتفاع كلفتها، ونغيّر بعض عاداتنا، فإذا كنا سابقا نستحمّ كل يوم، بتنا اليوم نستحمّ كل يومين أو ثلاثة أيام”، مشيرة إلى أن “عملية التقنين في شراء المياه محدودة جدا، فالمياه حاجة أساسية ولا يمكن الاستغناء عنها”. وأشار تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف” في يوليو الماضي إلى أن حصة الفرد الواحد من المياه في لبنان انخفضت منذ بداية الأزمة في البلاد، إلى ما دون 35 ليترا في اليوم من إمدادات المياه التي توفرها مؤسسات المياه العامة، بسبب الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي الذي ينبغي توفيره لضخ المياه. وتعتبر هذه النسبة الحد الأدنى للكمية المقبولة للفرد من المياه.

وحذّرت “يونيسف” من أن صحة الملايين من الأشخاص في لبنان، ولاسيما الأطفال، معرضة للخطر، بسبب شبكات إمدادات المياه التي لا تزال تتأرجح على حافة الهاوية.

وتشكل عدم كفاية إمدادات المياه المأمونة خطرا كبيرا، كما أشارت المنظمة إلى “الرضع وصغار الأطفال المعرضين بشكل خاص للإصابة بالأمراض المرتبطة بالمياه والصرف الصحي، وهي أحد الأسباب الرئيسية لوفيات الأطفال دون سنّ الخامسة”.

وتكمن المشكلة الأساسية التي يعاني منها قطاع المياه، والتي تحول دون إمداد المواطنين بالكمية الكافية التي يحتاجونها، في عدم توفر الأموال لدى مؤسسات المياه لتأمين الطاقة من أجل ضخ المياه بذات الوتيرة التي كانت عليها قبل الأزمة الاقتصادية.

وأوضح أنطوان الزغبي، الخبير التقني لدى مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان، أن “أول سبب جوهري لانقطاع المياه هو اعتماد أكثر من ستين في المئة من محطات توزيع المياه على نظام ضخ المياه باستخدام الطاقة الكهربائية”. وأشار إلى أن “المحطات الرئيسية لتأمين المياه تعتمد على خطوط الخدمة، أي على الطاقة الكهربائية التي تؤمنها مؤسسة كهرباء لبنان. وهذه المحطات لا توجد فيها مولدات كهربائية بديلة، وعندما تنقطع خطوط الخدمة تنقطع المياه. والمعلوم أن قطاع الكهرباء في لبنان يمر بفترة عصيبة”.

ولدى مؤسسة مياه لبنان الشمالي 135 مولدا، يتم تشغيلها يوميا لساعات طويلة. وكانت “مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان” أوضحت في بيان أن “محطات الضخ التابعة للمؤسسة تشهد تقنينا قاسيا في التغذية بالتيار الكهربائي، لاسيما المحطات التي تتغذى بخط خدمة من مؤسسة كهرباء لبنان، حيث يصل انقطاع التيار منذ الخامس عشر من يوليو الماضي إلى حدود 12 ساعة يوميا، الأمر الذي ينعكس سلبا على تأمين استدامة تزويد المناطق بالمياه”.

مرحلة قبل الانهيار
ولفت الزغبي إلى أن “بعض محطات تأمين المياه لديها مولدات بديلة للطاقة الكهربائية، ولكن هذه المولدات تعتمد على مادة المازوت التي بتنا حاليا عاجزين عن تأمينها بسبب ارتفاع كلفتها، حيث تبلغ كلفة طنّ المازوت (ألف ليتر) 1200 دولار أميركي، ونحن بحاجة إلى حوالي 200 ألف ليتر من المازوت أسبوعيا لكي نتمكن من تشغيل المولدات 12 ساعة في اليوم، لكن هذه المبالغ غير متوفرة”.

وأضاف أن “جهات دولية مانحة بالتعاون مع يونيسف قدّمت المساعدة في أواخر العام 2020، لتأمين المازوت للمولدات بغية تشغيل بعض محطات المياه. وكذلك مؤخرا عندما بدأ وباء الكوليرا بالانتشار في لبنان ساعدت يونيسف في تأمين المازوت لتلك المولدات”.

وكشف الزغبي عن مشكلة أخرى هي “تأمين صيانة المولدات، وعدم رغبة متعهدي الصيانة بالعمل لأنهم يتقاضون بدل أتعابهم بالليرة اللبنانية التي تواصل انهيارها أمام الدولار الأميركي”. وقال “خلال السنوات الماضية ساعدتنا يونيسف والاتحاد الأوروبي في تأمين صيانة محطات الضخ وتأمين الكلور اللازم لمحطات التعقيم وتأمين المواد الاستهلاكية كالزيت للمولدات وغيرها من المواد التي تحتاجها محطات التكرير”.

ورأى أن “النقص في العنصر البشري الذي فقد حماسته للعمل بسبب فقدان الليرة اللبنانية قيمتها أمام الدولار، هو أيضا من العوامل التي أثرت سلبا على عملية تأمين المياه للمواطنين”، موضحا أن “ما بين 4 و10 في المئة من الموظفين في قطاع المياه تركوا مناصبهم للبحث عن فرص عمل أفضل، فيما يقوم بعض الموظفين بالعمل بشكل جزئي في مجالات أخرى، وهذا أمر ممنوع ولكن يتم التغاضي عنه حاليا”.

وأضاف “لم نصل إلى مرحلة الانهيار”، مشيرا إلى أن “حصة الفرد من المياه التي توفرها مؤسسات المياه حاليا تبلغ حوالي 40 ليترا يوميا، حيث كانت حصة الفرد في العام 2018 حولي 160 ليترا في اليوم، وباتت حصته حاليا 160 ليترا كل 4 أيام”. ورأى أنه “لا يمكن تأمين المياه بانتظام إلا مع انتظام سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية. أو إذا قررت الدولة اللبنانية دعم قطاع المياه كتأمين المازوت أو الكهرباء”.

وتتولى بعض محطات الوقود تأمين توزيع المياه إلى منازل المواطنين باستخدام سيارات نقل متخصصة “سيترن” تتراوح سعتها بين 10 و20 ألف ليتر، كما تتولى ذلك بعض الشركات المتخصصة بنقل المياه.

وتعتمد العديد من المنازل على النقل المكلف للمياه بالصهاريج، أو من قبل مقدمي الخدمات من القطاع الخاص دون أي ضمانات بشأن جودة تلك المياه، بحسب يونيسف، التي أشارت كذلك إلى أن “متوسط تكلفة 1000 لتر من المياه المنقولة بالصهاريج وصل إلى 145 ألف ليرة لبنانية في أبريل 2022، أي بزيادة قدرها خمسون في المئة تقريبا مقارنة بشهر أبريل 2021، وبزيادة تعادل ستة أضعاف عما كانت عليه في العام 2019″، فيما ارتفعت هذه الأسعار أيضا في نهاية العام 2022 مع تصاعد ارتفاع الدولار.

وقال جيمي الحاج، الذي يقوم بتوزيع المياه على المنازل في جبل لبنان، إن “معدل عمليات نقل المياه في اليوم الواحد تتراوح بين ثلاث وخمس نقلات في حالات انقطاع المياه، و’النقلة’ تمثّل سعة ‘سيترن’ واحد، وتتراوح بين 16 و20 ألف ليتر من المياه”. وأشار إلى أن كلفة “النقلة” تتراوح بين 55 و60 دولارا أميركيا، بحسب بعد أو قرب مكان السكن. وأوضح الحاج أن “مصدر المياه هو الآبار الإرتوازية الخاصة التي يبيع أصحابها المياه، وهي مياه آمنة ونظيفة”.

هدر في البحر
وتعتمد معظم الأسر اللبنانية على المياه المعبأة لتلبية احتياجاتها من مياه الشرب، ويرجع ذلك جزئيا كما أشارت منظمة يونسيف “إلى مخاوف أفرادها بشأن جودة المياه التي تصل إلى صنابير بيوتهم، وفي شهر أبريل الماضي، أصبح يتوجب على العائلات التي تعتمد على المياه المعبأة لتلبية احتياجاتها من مياه الشرب، أن تدفع بين ثلاثة وخمسة أضعاف ما كانت تسدده قبل عام واحد فقط”.

وأضافت “تحتاج الأسرة المكونة من خمسة أفراد، يتناولون ما مجموعه 10 لترات يوميا من المياه المعبأة، إلى إنفاق نحو ما يعادل 261 دولارا أميركيا، بالإضافة إلى كلفة المياه المستخدمة لتلبية احتياجات الطهي والنظافة العامة، كما تؤثر أزمة المياه بشكل حاسم وخطير على القطاع الاستشفائي في البلاد وعلى المراكز الصحية الأخرى، بالإضافة إلى مياه الشفة في المدارس”.

وخلال جلسة لمجلس الوزراء اللبناني العام الماضي، تم عرض “خطة النهوض بقطاع المياه” بقيمة تسعة مليارات دولار، تتضمن ملياري دولار للدراسات، الأمر الذي انتقده بعض المسؤولين لضخامته وتم وصفه بأنه مبالغ به وسرقة علنية.

وترى يونيسف أن توفير المياه من خلال مرافق التشغيل العامة يظل الحل الأفضل والأقل كلفة، وأنه “يجب اتخاذ خطوات فورية لحل أزمة الطاقة ودعم توفير الخدمات، وبشكل مواز هناك حاجة ماسة إلى القيام باستثمارات كبيرة كي تستعيد شبكات المياه العامة فعاليتها”.

وبينما تعمل الحكومة، كما تؤكد المنظمة الأممية، على إيجاد حلول للأزمة، تلفت إلى أهمية أن “تضمن قدرة كل العائلات، لاسيما الأكثر ضعفا، على تحمل تكاليف المياه، فالحصول على المياه ليس حاجة ضرورية فحسب، بل حق أساسي أيضا، والحصول على مياه كافية ومأمونة وبأسعار معقولة ينقذ الأرواح ويحافظ على صحة الأطفال”.

ويتمتع لبنان بمناخ متوسطي يتميز بغزارة المتساقطات في فصل الشتاء، لكنه يعاني من عجز في الميزان المائي بسبب هدر مئات الآلاف من الأمتار المكعبة من المياه في البحر.

وفي ظل الأزمة الحالية التي تعصف ببلاد الأرز، فإن ما يتمناه اللبنانيون هو عودة مؤسسات الدولة كافة إلى الانتظام وتوفير الخدمات الأساسية، لاسيما مياه الخدمة ومياه الشرب. ويحتوي لبنان جغرافيا على حوالي 40 نهرا أساسيا، منها 17 نهرا تصنف على أنها دائمة الجريان بفعل العوامل الطبيعية المحيطة بها. ويقدر مجموع التدفق السنوي لهذه الأنهار مجتمعة بحوالي 4000 مليون متر مكعب على مدار العام الواحد. وتحدث غالبية هذا التدفق بنسبة 3000 مليون متر مكعب بين شهري ديسمبر ومايو من كل عام، بفعل نشاط حركة الأمطار في هذه الفترة.

العرب

مقالات ذات صلة