العراق يلاحق مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي… فما السبب؟
تُنفّذ السلطات القضائية والأمنية العراقية، حملة تشمل عشرات المشاهير وصنّاع المحتوى على منصّات التواصل الاجتماعي، بحجّة «مكافحة المحتوى الهابط» والمخالف للذوق العام، وفرض إجراءات عقابية وصلت إلى مستوى السجن مدة عامين لبعضهم، وسط مخاوف حقوقية من تحوّل الحملة إلى أداة حكومية للتضييق على حرية التعبير ومطاردة منتقدي السُلّطة.
وأعلنت وزارة الداخلية الاتحادية في كانون الثاني/يناير الماضي، تشكيل لجنة لرصد «المحتويات البذيئة والهابطة» على مواقع التواصل الاجتماعي التي «يسيء بعضها للذوق العام ويخالف الأخلاق والتقاليد» في المجتمع العراقي الذي لا يزال محافظًا إلى حدّ بعيد. وأُنشأت منصّة ليتمكن مستخدمو الإنترنت من الإبلاغ عن منشورات من هذا النوع.
وحكمت محكمة جنح الكرخ في بغداد على حسن صجمة وهو ناشط على يوتيوب بالسجن عامين، وعلى غفران مهدي سوادي المعروفة بـ«أم فهد» وهي ناشطة على تيك توك حيث يحظى حسابها بأكثر من 23 ألف متابع، بالسجن ستة أشهر، وفق بيان مجلس القضاء الأعلى.
وأشار البيان إلى أن صجمة وأم فهد أُدينا «لقيامهما بنشر عدة أفلام وفيديوهات تتضمن أقوالًا فاحشة ومخلة بالحياء والآداب العامة وعرضها على الجمهور عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
وخشية الملاحقة القضائية، أقدم أغلب الناشطون المتهمون بنشر «المحتوى المسيء» على حذف الصور ومقاطع الفيديو المنشورة على حساباتهم، ومنهم من قرر بيع صفحاته الشخصية أو إغلاقها، فيما نشر آخرون مقاطع فيديو وهم «يعتذرون» من وزارة الداخلية والجمهور على ما قدموه في السابق.
ويرى مختصون في مجال حقوق الإنسان، ومدوّنون، أن هذه الإجراءات تضع العديد من علامات الاستفهام لمفهوم العدالة في العراق.
الخبير في حقوق الإنسان، الدكتور علي البياتي، يقول لـ«القدس العربي» إن «توجه القضاء والحكومة العراقية لوضع حد لانتشار المحتوى الهابط (كما تسميهم) وان كان ضرورة ومبررا للحفاظ على الذوق العام للمجتمع العراقي، إلا ان التحريك المباشر للمؤسسات الأمنية وإصدار مذكرات إلقاء القبض والاعتقال كأول خطوة لمعالجة المشكلة أمر غير مبرر وفيه الكثير من الاستعجال والتعسف في استعمال القانون، حيث كان من المفترض التوجه إلى الإجراءات البدلية والعقوبات غير المباشرة؛ مثل حجب المواقع أو/و انذارهم أو فرض عقوبات مادية عليهم» معتبراً إن «اي تقييد للحريات يجب ان يكون حصرا من خلال القانون، وهذا القانون يجب ان يكون ملائما لطبيعة النظام السياسي الديمقراطي ويكون وفق معايير حقوق الانسان من ناحية وضوحه وامكانية فهمه وتطبيقه من قبل المواطن».
وعدّ البياتي إن اعتماد القضاء على المادة 403 من قانون العقوبات العراقي «فيه تعارض مع النظام الديمقراطي» مبيناً إن «عدم وضوح كلمة (مخلة بالآداب العامة أو الحياء) في المادة 403 من قانون العقوبات العراقي، وكونه فضفاضا وقابلا للتأويل، ويختلف فهمه من منطقة إلى أخرى أو مجتمع وآخر في العراق، وصعوبة تحديد قيوده من قبل الفرد، يجعل الإدانة وفق هذه المادة تتعارض مع مبادئ حكم القانون من حيث ضرورة ان تعبر آليات تشريع القوانين عن تركيبة المجتمع وإرادته، وان يكون القانون مفهوما وقابلا للتطبيق وان لا يتعارض مع الحريات الأساسية ومنها حرية التعبير عن الرأي».
وتنص المادة القانونية المعتمدة حالياً لملاحقة «صُنّاع المحتوى المسيء» حسبما تراه السلطات العراقية، والموروثة من حقبة النظام السابق، على أن يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تقل عن مئتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من صنع أو استورد أو صدر أو حاز أو أحرز أو نقل بقصد الاستغلال أو التوزيع كتابا أو مطبوعات أو كتابات أخرى أو رسوما أو صورا أو أفلاما أو رموزا أو غير ذلك من الأشياء إذا كانت مخلة بالحياء أو الآداب العامة.
وأضاف البياتي، العضو السابق في مفوضية حقوق الإنسان، إنه «لا يخفى على صانع القرار ان المؤسسات العراقية المعنية بإنفاذ القانون تعاني من عدم التزامها بمعايير حقوق الإنسان من حيث توفر الضمانات القانونية للمتهم وعدم قدرة هذه المؤسسات للحد من انتهاكات حقوق الإنسان داخل هذه المؤسسات» موضحاً إن «زج أعداد كبيرة بشكل يومي تحت عنوان مكافحة المحتوى الهابط، سيعيد إلى أذهاننا انتهاكات الحكومات العراقية في مواجهة التحديات التي تواجهها، ومنها ما حدث في حكومة حيدر العبادي من اختفاء وفقدان الآلاف من المواطنين من المناطق التي كانت تقع تحت سيطرة تنظيم داعش، ثم تحررت ضمن حملة مكافحة الإرهاب في الفترة ما بين 2014-2017 والتي تصل عدد البلاغات والشكاوى فيها إلى ما لا يقل عن 10 آلاف شكوى، والانتهاكات التي حدثت في حكومة عبد المهدي خلال وبعد احتجاجات تشرين الأول/اكتوبر 2019 والتي بدأت بإطلاق إعلام الأحزاب السياسية للمتظاهرين بتهم مختلفة ومسيئة من ارتباطها بالسفارات وعملاء وغير ذلك، وكانت النتيجة استشهاد ما لا يقل عن 600 متظاهر وآلاف المصابين».
وفي الوقت ذاته، يرى البياتي أنه «لا يمكن نسيان انتهاكات لجنة الأمر الديواني 29 في حقبة حكومة مصطفى الكاظمي التي تحولت إلى فضيحة دولية بسبب انتهاكها لكل معايير حقوق الإنسان» مشدداً على وجوب أن «تكون من أهم أولويات الحكومة الحالية هو كسب ثقة الشارع والدخول في حوار مباشر مع المجتمع المدني والنخب والمختصين في معالجة المشاكل والتحديات، وعدم اللجوء إلى القوة والعنف من البداية». وأوضح أن «اهمال المؤسسات الأمنية لواجباتها المباشرة من مكافحة المخدرات والإتجار بالبشر والسلاح المنفلت والفساد وانشغالها بقضايا ثانوية، يضعف هذه الثقة ويشكك في نية الحكومة بإصلاح الأخطاء والمؤسسات، كما ان إطلاق سراح سراق المال العام بحجة إعادة الأموال وزج صانعي المحتوى السيء في السجون يضع الكثير من علامات الاستفهام لمفهوم العدالة في العراق». من جانبها، أكدت وزارة الداخلية الاتحادية، أن حملة «المحتوى الهابط» تهدف لتحجيم الحالات والظواهر السلبية في المجتمع.
وقالت الوزارة في بيان أصدرته الجمعة، إنه «للحد من انتشار المقاطع ذات المحتوى الهابط والمسيئة للذوق العام ومن أجل تحجيم الحالات والظواهر السلبية في المجتمع، أجرى قسم محاربة الشائعات التابع لدائرة العلاقات والإعلام في وزارة الداخلية حملة توعوية ضمن منطقتي العامرية والمشتل في جانبي الكرخ والرصافة ببغداد».
وأضافت: «التقى من خلالها عناصر القسم بعدد من المواطنين وتم توزيع عشرات التوصيات التي تحد من انتشار الحالات السلبية في المجتمع، فضلاً عن التعريف بالرابط الإلكتروني الذي استحدثته الوزارة للإبلاغ عن المحتوى الهابط».
وتابعت: «وعلى صعيد متصل أجرى عناصر القسم حملة توعوية للحد من انتشار الأخبار المضللة التي يروج لها الإعلام المغرض في البلد، والتأكيد على ضرورة أخذ الأخبار من المصادر الرسمية وعدم تصديق الشائعات».
كما تؤكد وزارة الداخلية، أن حملتها «لن تكمم الأفواه ولا تستهدف الأقلام النزيهة».
وقال مدير العلاقات والإعلام في الوزارة، اللواء سعد معن، في تسجيل صوتي مُتداول، إن «الوزارة لن تقود أي حملة على الفقراء أو على تضييق الحريات» مبينا أن «العراق مكسبه الحقيقي هو حرية الرأي والتعبير والديمقراطية».
وتساءل معن: «هل تم محاسبة أي إعلامي، أو صحافي أو الأقلام النزيهة أو الشريفة، وهل تم تكميم أي شخص؟» مشيرا إلى «أننا في الداخلية لدينا خبرة طويلة بالعمل ولم نأتِ من فراغ، سواء خبرتنا الميدانية أو شهادتنا الأكاديمية أو المواطنين أو المنصة أو المشاركة الواسعة من الجميع».
وأكد، أنه «لن يكون هناك أي تكميم للأفواه في العراق، خاصة وأن الحكومة اليوم أنجزت الكثير من الإصلاحات» لافتا إلى، أن «الحملة ضد المحتوى السيئ لا تتعلق بالتكميم أو المحاربة، بل هي حملة وطنية قانونية الغاية منها إصلاح القيم التي حاول البعض طمسها» حسب الوكالة الرسمية.
الإجراءات الحكومية الأخيرة أثارت موجة من ردود الفعل بين مؤيد ورافض، إذ قال الناشط والأكاديمي في النجف فارس حرّام، إن دعم الإعلاميين والمثقفين لملاحقة «المحتوى الهابط» مدهش وعجيب.
وذكر حرّام في «تدوينة» له، إنه «أدهشني في اعتقالات (المحتوى الهابط) دعم بعض الإعلاميين والمثقفين والناشطين. متحالفين مع السلطة في هذا الحفل الازدواجي الرهيب».
وأضاف: «من دون أن يسألوا أنفسهم كيف تقام العدالة بحق (الهابطين) وتترك بحق السراق والقتلة ومحرضي الفتن؟ في ظل مواد قانونية غامضة هناك وواضحة هنا؟ مدهش وعجيب!».
أما المتحدث باسم المكتب السياسي لحركة «عصائب أهل الحق» محمود الربيعي، فرأى إن «المحتوى السيء» هو «عدوان يهدف لصناعة دولة فاشلة ومجتمع متسافل».
وقال الربيعي في «تغريدة» له، «نشد على أيدي الأخوة في وزارة الداخلية فمحاربة المحتوى السيء واجب على كل عراقي شريف يحب وطنه ويريد الخير لأهله وناسه».
واعتبر أن «نشر التفاهة يراد منها صناعة دولة فاشلة ومجتمع متسافل، وهذا أخطر من كل أنواع العدوان والانتهاكات التي عانى منها العراقيون عبر مراحل التاريخ».
كذلك، ثمن رئيس «المجلس الأعلى الإسلامي العراقي» همام حمودي، جهود القضاء ووزارة الداخلية بمكافحة «المحتوى الهابط» فيما أشار إلى أنها مبادرة شجاعة لحفظ العائلة العراقية.
وذكر المكتب الإعلامي لحمودي في بيان، ان الأخير «ثمن جهود القضاء ووزارة الداخلية بمكافحة المحتوى الهابط ومحاسبة المسيئين للقيم والأخلاقيات العراقية الأصيلة، ومروجي ثقافة الابتذال».
ويبلغ عدد مستخدمي الإنترنت عالميا أكثر من 5 مليارات، وعدد صفحات الإنترنت ما يقارب 2 مليار، من هذا العدد الهائل فإن 20 مليون عراقي يستخدمون الإنترنت.
وتساءل البياتي: «كيف ستتعامل الحكومة العراقية مع المحتويات الهابطة القادمة من خارج الحدود؟» مستشهداً بمسح بريطاني عام 2020 أظهر أن «65 في المئة من المراهقين يتابعون محتويات غير ملائمة لأعمارهم». وأكد أن «موضوع التعامل مع العالم الافتراضي موضوع كبير ومعقد ويشغل المجتمع الدولي والأمم المتحدة، فبينما تظهر الحاجة الماسة لحماية الفرد والمجتمع من تأثير الكم الهائل من هذه المواقع المضرة، لا يمكن تجاهل ان هناك استغلالا لهذه المفردة من قبل الحكومات لغرض حجب حرية التعبير عن الرأي، وتقييد الحريات. لابد ان تكون هناك آليات قانونية ومن خلال مؤسسات الدولة المختصة لتنظيم إدارة الأنترنت وحماية حرية وحقوق الأفراد ومنع التجاوز عليها والحفاظ على الذوق العام». ومضى يقول: «كل هذه الخطوات يجب ان تكون من خلال قانون يشرعه البرلمان؛ وتسبق صياغته حوارات ونقاشات مطولة مع المجتمع المدني والنخب والمختصين في الأمن السيبراني والعالم الافتراضي».
القدس العربي