غموض خماسيّ باريس: عقبة تسوية على قائد الجيش… والغياب الإيرانيّ!
قلّلت الخارجية الفرنسية من أهميّة الاجتماع الخماسي، الذي استضافته الإثنين الماضي في 6 شباط من أجل لبنان وضرورة إنهاء الفراغ الرئاسي فيه، والذي ضمّ فرنسا، الولايات المتحدة الأميركية، المملكة العربية السعودية، مصر وقطر. واقتصر وصفه على اعتباره “تقنياً” على مستوى “الخبراء” لا يتّخذ قرارات.
ساهم في هذا الانطباع الأخذ والردّ اللذان سبقا تصريح الناطقة باسم الخارجية الفرنسية حول الاجتماع، وترقُّب صدور بيان عن الاجتماع تأخّر ثلاثة أيام، وسط تكهّنات باختلافات بين الدول المشاركة على مقاربة المعالجات المطلوبة للمأزق اللبناني. وقد نفاها المسؤولون الفرنسيون وبعض الدبلوماسيين الآخرين المشاركين في الاجتماع، الذين اتّصل بهم صحافيون، سواء في فرنسا أو في سفارات بلدانهم في بيروت.
غموض النتائج
دفع اقتضاب التصريح الفرنسي بعض الوسط السياسي اللبناني إلى البحث عن أسباب اقتصاره على تكرار اللازمة التي يردّدها المجتمع الدولي منذ ما قبل شغور الرئاسة اللبنانية في 31 تشرين الأول الماضي: دعوة البرلمان اللبناني إلى انتخاب رئيس جديد بسرعة، في ظلّ شحّ المعلومات، وتناقضها أحياناً، التي تسرّبت عمّا قرّره المجتمعون. فهذه التسريبات أفادت أنّ الدول الخمس ستمارس، كلٌّ على طريقتها، ضغوطاً على فرقاء لبنانيين لها صلات بهم، كي يسرّعوا انتخاب الرئيس، من دون تحديد الجهات التي ستخضع لهذه الضغوط، مع إشارة إلى أنّ الدول المعنيّة ستأخذ “إجراءات” بحقّ الفرقاء الذين يعطّلون ملء الشغور الرئاسي، لكن لم تنجلِ طبيعتها ولا تعني عقوبات بالضرورة.
من أسباب الغموض الذي لفّ نتائج اجتماع باريس أنّ المعطيات التي سبقته رجّحت أن يستعيد في قراراته أو اقتراحاته مضامين البيانات التي سبق أن صدرت عن هذه الدول أو بعضها، في شأن الإصلاحات والنأي بالنفس عن صراعات المنطقة، وتطبيق القرارات الدولية. وهذا ما لم يحصل.
الرئيس “الشبح” والغياب الإيرانيّ
سواء صدرت هذه التوقّعات، التي شملت تقديرات أن تطرح باريس خيارين للرئاسة، أحدهما قائد الجيش العماد جوزف عون، والآخر رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، عن تمنّيات لبنانية غير واقعية أم لا، فقد استبق الجانب الفرنسي الاجتماع بالتساؤل: لماذا يعلّق اللبنانيون أهميّة عليه، فيما هو اجتماع تشاوري وليس على مستوى عالٍ؟ ونفت الأوساط الفرنسية أن يكون البحث تطرّق إلى أسماء المرشّحين. وهذا ما دفع قطباً سياسياً لبنانياً إلى التأكيد المتواصل أنّ العواصم الكبرى لن تتدخّل في تسمية الرئيس العتيد، إذ قال: “وهل ننتخب شبحاً للرئاسة؟”. وأراد بقوله هذا أنّه لا بدّ للدول الساعية إلى تسوية حول الرئاسة من أن تتطرّق إلى الأسماء في مداولاتها مع الفرقاء المحليّين أو مع العواصم المعنيّة. وفي هذا المجال كان افتراض بأنّ المشاركة القطرية في الاجتماع تعود إلى أنّ الدوحة هي التي تتولّى الاتصالات مع طهران في هذا الصدد.
حضور باقري إلى بيروت
في كلّ الأحوال، وفي انتظار اتّضاح ما آل إليه الاجتماع الخماسي، وإمكان تكراره على مستوى أعلى، رافقت الاجتماع في بيروت تساؤلات عن مدى فعّاليّته في التمهيد لإنهاء الفراغ الرئاسي، ما دامت دولة أساسية (إيران عن طريق حزب الله) متّهمة بأنّها وراء إطالة الفراغ الرئاسي غائبةً عنه. وهو تساؤل تردّد على ألسنة مراقبين وأقطاب سياسيين منخرطين في التواصل مع العواصم المعنيّة بلبنان. وقال أحدهم لـ”أساس” إنّه ليس صدفة أن يعقب اجتماع باريس الخماسي بعد 24 ساعة، وفيما كان الوسط السياسي يترقّب البيان الموعود، وصول نائب وزير الخارجية الإيراني رئيس الوفد الإيراني المفاوض في الملف النووي علي باقري كني إلى بيروت، بحجّة المشاركة في احتفال تدشين مبنى السفارة الإيرانية الجديد في منطقة بئر حسن، لمناسبة الذكرى الـ44 للثورة الإيرانية. وقد أمضى أيّاماً عدّة وزار الجنوب واجتمع إلى رئيس البرلمان نبيه برّي ووزير الخارجية عبد الله بوحبيب، وجدّد العروض لتقديم المساعدات للبنان، وقال: “لدينا قناعة راسخة بأنّ النخب السياسية والشعب اللبناني لديهم الوعي والبصيرة والحكمة الكافية التي تؤهّلهم لتقرير مستقبل هذا البلد الشقيق من خلال الإرادة الوطنية اللبنانية المستقلّة والحرّة، بعيداً عن أيّ إملاءات خارجية”. وقال القطب السياسي نفسه إنّ زيارة باقري كني تهدف إلى القول إنّ إيران حاضرة في البلد ولا يمكن للدول أن ترسم حلولاً فيه من دونها. وربط مراقبون بين تصريحه وتصريحات أكثر من مسؤول في “حزب الله” سبقت اجتماع باريس، منها قول النائب عن الحزب حسن فضل الله عشيّة اجتماع باريس: “نحن لسنا ممّن ينتظر الخارج، ولا يمكن للخارج أن يفرض علينا أيّ اسم، ولو اجتمعت كلّ دول العالم لتفرض اسماً على اللبنانيين، فلن تستطيع أن تفعل ذلك”.
عقبة تسوية على قائد الجيش
ترافق ذلك مع معطيات تجمّعت لدى بعض الوسط السياسي عن ارتفاع أسهم قائد الجيش العماد جوزف عون بديلاً عن النائب ميشال معوّض الذي ترشّحه القوى السيادية، وعن مرشّح حزب الله والثنائي الشيعي سليمان فرنجية. وهو الاسم الذي تصدّر لائحة الثلاثة التي اقترحها رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط على كلّ من حزب الله ورئيس البرلمان نبيه برّي للخروج من الجمود الذي يأسر الرئاسة، إضافة إلى المرشّحَين جهاد أزعور وصلاح حنين. إلى ذلك تردّدت معلومات عن نيّة الجانب الفرنسي طرح الخيار بين عون وفرنجية، فضلاً عمّا سبق ذكره في شأن سعي الجانب القطري إلى إقناع رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل بانتخاب قائد الجيش.
تفيد هذه المعطيات أنّ رحلة البحث عن اسم الرئيس الذي يفترض أن يملأ الفراغ ليست سريعة، وهذا ما يفسّر تريّث اجتماع باريس الخماسي في إصدار قرارات أو اقتراحات، لأنّ الأمر يحتاج إلى مزيد من المشاورات في الخيار الرئاسي.
تنسب بعض المعطيات التعقيدات التي تواجه جهود اجتماع باريس لإنهاء الفراغ إلى قراءة تفيد بأنّ حزب الله يردّد على نطاق ضيّق أنّ طبخة الرئاسة “لم تنضج بعد”، وأنّه، وإيران، ليسا على استعداد للتنازل عن فرنجية من أجل قائد الجيش، لأنّ ما يمكن أن تحصل عليه طهران في علاقتها مع دول الغرب مقابل فكّ أسر الرئاسة في لبنان لم يتّضح بعد. ويقول مصدر سياسي بارز في هذا السياق إنّ تسليم هذه الورقة ما زال مبكراً، خصوصاً أنّ حزب الله يربح في المناورة السياسية على خصومه المحليّين الذين يظهرون مرتبكين وغير موحّدين. وفي رأي أصحاب هذه القراءة أنّه مثلما حصلت طهران على قبول أميركي برئاسة محمد شياع السوداني للحكومة العراقية مقابل ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، فلن تترك ورقة التسوية الرئاسية في لبنان إذا لم تحصل على مكسب في واحد من الملفّات العالقة بينها وبين دول الغرب.
قحام الرئاسة بالانقسام حول أوكرانيا
لكنّ هناك قراءة أخرى لاستمرار طهران بالإمساك بورقة الرئاسة اللبنانية ترى أنّه يجب عدم الاستهانة بالتنسيق الإيراني – الروسي في هذه المرحلة التي اتّسمت بانحياز طهران الكامل إلى روسيا فلاديمير بوتين في حربها على أوكرانيا وتزويدها بالمسيّرات والأسلحة مقابل بحث بيعها طائرات مقاتلة تعزّز دفاعاتها الجوّية. وينسب بعض الأوساط إلى قيادة الحزب قناعتها بعدم تكرار تجربة الرئيس ميشال سليمان في الرئاسة، في ظلّ الوضع الجيوسياسي المعقّد في البلد، وهو الذي أيّدته وساهمت في انتخابه رئيساً للجمهورية، لكنّه لم ينسجم معها في توجّهاتها لاحقاً، وذلك من ضمن حسابات إقليمية تتعارض مع توجّهات الحزب.
ترى مصادر على اتصال بموسكو أنّها مستمرّة بتأييد انتخاب فرنجية لرئاسة الجمهورية، على الرغم من تردادها اللازمة التي يكرّرها الغرب من أنّها لا تتدخّل في اسم الرئيس اللبناني المقبل، وتتوافر معلومات من العاصمة الروسية عن أنّها لا تنظر بعين الارتياح إلى ترشيح قائد الجيش، نظراً إلى صلاته بالأميركيين والمساعدات التي يقدّمونها للجيش. ولا شكّ أنّ للحساسية العالية بين موسكو وواشنطن التي نشأت منذ الحرب بين روسيا وأوكرانيا تأثيراً كبيراً على سياسات الدولتين في سائر بقاع الأرض، بحيث تسعى كلّ من العاصمتين إلى معاكسة نفوذ الأخرى في أيّ مكان، في ظلّ الانقسام الدولي العمودي بعد المواجهة في أوروبا. ومثلما يعتبر بعض الأوساط أنّ تأييد موسكو لفرنجية في الرئاسة يجعل من الصعب على واشنطن أن ترتاح لتبوّئه هذا المنصب، سيكون أيضاً من الطبيعي أن تقابل القيادة الروسية ترشيح قائد الجيش للرئاسة بالرفض لقربه من الإدارة الأميركية. مع الأخذ في عين الاعتبار الفارق الكبير بين القدرات الروسية السياسية وخاصة هذه الأيام، وبين الدبلوماسيّة الأميركية القادرة على تحريك أحجار الشطرنج كيفما تريد إذا لم يكن مباشرة فعبر حلفائها.
يردّد الجانب الروسي ملاحظات، ومنها أنّه وجّه دعوات إلى الجنرال عون لزيارة موسكو خمس مرّات ولم يلبِّها، وأنّ موسكو عرضت تقديم مساعدات عسكرية للجيش من دون أن تلقى أيّ تجاوب.
يشير العارفون بالموقف الروسي إلى أنّ من النقاط التي تهمّ موسكو في البعد الجيوسياسي للرئاسة اللبنانية أن يسعى الرئيس الجديد إلى تحقيق خطوتين في العلاقة مع سوريا التي بات نفوذها فيها مسألة حيوية في المنطقة:
– أن يلتزم إعادة النازحين السوريين إلى سوريا.
– ترسيم الحدود بين البلدين، الذي سبق للرئيس فلاديمير بوتين أن طرحه.
التزم فرنجية بهذين الأمرين، وهو قادر على السعي إلى تحقيقهما على حدّ قوله من صرح بكركي.
وليد شقير – اساس