نزوح صامت من الضاحية: تُباع المنازل بأرخص الأثمان…وتُشترى الغرف الآمنة بأغلاها

مع انبلاج فجر الثلاثاء، اهتزت الضاحية الجنوبية تحت وطأة غارة إسرائيلية جديدة، لتعود الذكريات المؤلمة إلى أهالي المنطقة الذين اعتادوا دوي الانفجارات منذ عقود. لكن هذه المرة، حمل الانفجار أكثر من دويّ الصواريخ؛ فقد ترافق مع موجة من الهلع دفعَت العائلات إلى التهافت على وكالات العقارات، بحثاً عن منازل خارج دائرة الاستهداف. بين أزقة الضاحية المُدمَّرة وأسواق بيروت المُكتظة، تحوّل البحث عن “سقف آمن” إلى هاجسٍ يومي، في مشهد يعكس تحوّل الحرب من مواجهة عسكرية إلى أزمة سكن معقدة.

لم تكن غارة الفجر التي استهدفت حي ماضي مجرد انفجار عابر، بل كانت القطرة التي أفاضت الكأس بالنسبة الى أبو مهدي، أحد سكان الحي، الذي قرر هو وعائلته مغادرة الضاحية للمرة الأولى منذ سنوات: “في المرة السابقة، عندما هُدِّدت الضاحية، اعتبرنا الخروج نزهة مؤقتة… لكن اليوم، البحث عن منزل خارجها أصبح ضرورة، حتى لو اضطررنا الى دفع معظم راتبنا للإيجار”.

أما أبو علي، من سكان منطقة القائم، فيروي قصة مختلفة: “منزلي هنا ملكٌ لنا، لكن بعد الغارة الأخيرة، سأضطر الى تأجيره والهرب بَعيداً… لا أخاف على نفسي، لكن كيف أُعرّض أطفالي للخطر؟”.

تحوّلت واجهة بيروت البحرية، فجر الثلاثاء، إلى محطة مؤقتة لعشرات العائلات التي فرّت من الضاحية، حاملةً معها ما استطاعت من أغراض. بينما تتحول محادثات المقاهي إلى سوق عقاراتٍ عشوائي. “أبحث عن شقة بغرفة نوم واحدة، حتى لو في منطقة نائية”، تقول أم حسن، بينما تحمل وثائق تأجير منزلها المدمر في الجنوب.

لكن الهروب ليس بتلك السهولة. فبحسب وكيل عقارات في منطقة الشياح “الطلب زاد بنسبة 70% خلال الأيام الماضية، لكن الايجارات ارتفعت بصورة جنونية… شقة صغيرة تُؤجر الآن بمبالغ تُنافس أسعار الأشرفية”.

وراء الأرقام، تكمن معاناة لا تُرى. فبعض سكان الضاحية يواجه رفضاً من الملاك لتأجيره وحدات سكنية في المناطق المحيطة ببيروت، ليس عنصريةً ضده، بل خوفاً من أن تتحول مناطقه إلى أهدافٍ جديدة.

“عندما علم المالك أنني من الضاحية، اعتذر بلباقة… فهمت سبب رفضه، لكن أين المفر؟”، يقول أبو حسين، الذي اضطر للعودة إلى منزله المُهدَّم بعد بحثٍ عقيم.

إلى ذلك، تعوق ارتباطات العمل الكثيرين من المغادرين، إذ يعمل معظم سكان الضاحية في أسواقها أو مصانعها، ما يدفعه الى البحث عن سكن قريب، لكن الايجارات هناك تُسعَّر بـ “ذهب”، وفق تعبير أحد الوسطاء.

لم تكن الضاحية الجنوبية بعيدة عن الاستهدافات الاسرائيلية خلال السنوات الماضية، لكن الهدوء النسبي الذي أعقب اتفاق وقف إطلاق النار في تشرين الثاني الماضي، سمح لآلاف العائلات بإعادة بناء منازلها المُدمَّرة. اليوم، يعيدها القصف الأخير إلى نقطة الصفر. “أعدتُ ترميم منزلي مرتين بعد حرب 2006 و2013… الآن، سأبيعه بأي ثمن”، تقول أم علي، وهي تفرغ خزانة ملابسها استعداداً للرحيل.

في مقاهي الضاحية، لم يعد الحديث عن “متى تنتهي الحرب؟”، بل تحوّل إلى “متى نستطيع الهرب؟”. البعض يرى أن المغادرة إلى مناطق أخرى في لبنان هي مجرد تأجيل للكارثة، فيما يرى آخرون أن الهجرة هي الحل الوحيد. “لبنان لم يعد صالحاً للعيش… فكيف إذا كان تحت القصف الدائم؟”، يقول شابٌ يُعدّ أوراقه للهجرة إلى تركيا.

من رمز المقاومة إلى سوق عقارات مأزوم
تحتضن الضاحية الجنوبية تاريخاً من الصمود، لكن اليوم، تتحول شوارعها إلى سوقٍ للخوف، بحيث تُباع المنازل بأرخص الأثمان، وتُشترى الغرف الآمنة بأغلاها. بينما تبقى التساؤلات معلقة: هل تُجبر الحرب الناس على الاختيار بين “وطنهم” و”سلامتهم” أم أن السلاسل الزمنية للعنف في لبنان صارت أطول من عمر جيلٍ كامل؟

محمد شمس الدين- لبنان الكبير

مقالات ذات صلة