«دومينو» الكيانات في الشرق الأوسط: سوريا الحجر الأول والبقية تأتي!

هناك وحدة مسار ومصير بين سوريا ولبنان حالياً. ففي كل منهما، جاءت الحكومة بعد «نظامٍ» كان يُمسك بالسلطة فولاذياً. وكل منهما يمرّ بمرحلة انتقالية دقيقة ستحدد مصيره. فإما أن يصمد وينتقل إلى مرحلة جديدة، وإما أن يخسر استقراره وتنفتح عليه أبواب المجهول.

ليس من قبيل الصدفة أن يسقط نظام الأسد في سوريا مباشرة بعد الوقائع الجديدة والعميقة التي فرضتها الحرب الإسرائيلية في لبنان. وربما كان البعض مقتنعاً بأن كل تغيير في سوريا يقود حتماً إلى تغيير في لبنان. لكن قلائل جداً كانوا يصدقون أن العكس صحيح أيضاً. فالتغيير في لبنان، أي التراجع الملموس لنفوذ «حزب الله» داخل السلطة المركزية، ساهم في حصول التغيير دراماتيكياً في سوريا، أي سقوط الأسد.

 

يستتبع ذلك استنتاج آخر. ففرضية أن نظام الأسد هو الذي يوفر الحماية لـ»حزب الله» دائماً، وهو شريانه الحيوي مع طهران، لا تمثل سوى نصف الحقيقة. والنصف الآخر هو أن «الحزب» وفّر بسلاحه ورجاله حماية النظام، عندما تعرّض جدياً لخطر السقوط، ما أتاح له الصمود حتى جاء الروس إلى سوريا في العام 2015 ووضعوا ثقلهم إلى جانبه مباشرة.

اليوم، تخوض حكومة أحمد الشرع غمار التحدي الأكبر: هل تستطيع الإمساك بسوريا كاملة؟ وهذا الأمر بدأت تتجلى صعوبته، بل استحالته. ومِثلَها السلطة الجديدة في لبنان، ولو بدا وضعها أفضل قليلاً.

في سوريا، بات مؤكداً أن لا دور للحكومة المركزية جنوب خط دمشق. فإسرائيل أعلنت ذلك صراحة وبدأت تطبيقه بحزم، وهي تكرس إطاراً سياسياً جديداً للدروز هناك. وجاءت الانتهاكات الدموية في الساحل لتدعم الهواجس أو الشعارات التي يرفعها الإسرائيليون وبعض الأقليات في سوريا، والقائلة إن الحكم الجديد لن يكون عادلاً مع الأقليات الدينية والعرقية. أي إن المواجهات في تلك المنطقة هي ذريعة مثالية لإسرائيل.

ويشكل الاتفاق الذي جرى مساء أمس بين الشرع ورئيس «قسد» خطوة في الاتجاه المعاكس. لكن شيئاً ليس مضموناً في نجاح المحاولات لترميم الوحدة السورية في ظل التداخلات والمصالح الإقليمية المتضاربة من جانب كل من إسرائيل وتركيا وروسيا وإيران إلى حد معين. وبتعبير آخر، يبدو كأن هناك من أراد فتح جبهات في وجه سلطة الشرع لمنعه من بسط سيطرته على كامل سوريا.

لا يبدو وضع لبنان أفضل بكثير. فالحكومة المركزية تبسط سلطتها على بيروت ومناطق أخرى، لكن إسرائيل هي الطرف القوي الذي يمتلك فعلاً حرية الحركة في الجنوب. وفي المقابل، يعلن «حزب الله» أنه لن يسلم سلاحه للدولة في شمال الليطاني. وفي أي لحظة، قد تقع الواقعة، بين السلطة المركزية وإسرائيل، أو بين هذه السلطة و»حزب الله»، أو بين إسرائيل والسلطة اللبنانية و»حزب الله»، ما دام أفق الحل مقفلاً.

إذا نجحت حكومتا لبنان وسوريا في بسط السلطة على أراضي البلدين، فسيكون ممكناً تجنب مخاطر التفكك التي تتقدم بشكل سريع. وطوال الأسابيع الفائتة، عكف المراقبون على رصد ملامح الاتجاه الغالب، وجاءت النتائج مثيرة للقلق، خصوصاً في سوريا. وتتعاطى إسرائيل اليوم مع جنوب سوريا وجنوب لبنان كأنهما ساحة عمل واحدة. ولذلك، تمددت إلى حدود معينة داخل الأراضي اللبنانية والسورية، لكنها فرضت سيطرتها بالنار مباشرة في عمق عشرات الكيلومترات، أي حتى صيدا وخط الأولي في لبنان، وحتى ريف دمشق في سوريا. مع التذكير بأنها دمرت تماماً، وباكراً، كل القدرات الصاروخية الكبرى في للبلدين، حتى صارت لها السيطرة العسكرية شبه مطلقة.

وللمرة الأولى، بات ممكناً التفكير بالذرائع التوراتية للتوسع، والتي يكشفها الإسرائيليون تباعاً في البلدين. وبدأ اللبنانيون يتعاطون بجدية مع أفكار الاستيطان الإسرائيلية عندما دخل نحو ألف مستوطن إلى موقع يدّعون أنه يحمل رمزية دينية لهم، على مقربة من الحدود، الأسبوع الفائت.

ولا يمكن هنا تجاهل الفيديو الذي تم تداوله في إسرائيل، تزامناً مع اشتباكات الساحل السوري، وفيه ظهر رئيس لجنة الأمن القومي في الكنيست بوعاز بيسموت، مطالباً بـ»فرض السيطرة الإسرائيلية الكاملة على سوريا، ما يجعل مستقبلها مشابهاً لوضع الأردن، أي بلا أي قدرات عسكرية مستقلة». وقال: «لن نسمح بظهور قوة عسكرية جديدة في سوريا بعد انهيار نظام الأسد، وستكون سيطرتنا هناك حتمية، لأنها معبرنا الاستراتيجي إلى نهر الفرات». وبدا الرجل أكثر طموحاً عندما لوح بأن التوسع الإسرائيلي قد يشمل في المستقبل العراق ومنطقة كردستان. ومع أن بيسموت سارع إلى التنصل من الفيديو وأكد أنه «مزيف»، وتم تركيبه باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، فإن الشكوك قائمة حول سعي إسرائيل إلى السيطرة على سوريا فعلاً، لجعلها جسر عبور إلى الفرات والعراق والمنطقة الكردية.

في المحصلة، إذا أصرت إسرائيل على استكمال تنفيذ ما خططت له في سوريا ولبنان، برعاية إدارة دونالد ترامب، فهذا يعني أن سوريا مقبلة على تقسيم وتقاسم: التقسيم بين مكوناتها والتقاسم بين قوى النفوذ الخارجية، ولاسيما إسرائيل وتركيا وروسيا. ولأن حدود الكيانات في الشرق الأوسط مترابطة، فهذا يعني أن هذه الكيانات ستهتز كلها عند اهتزاز أي منها، وستسقط بسقوطه. وتبدو سوريا هي الحجر الأول في «الدومينو»، والبقية تأتي.

طوني عيسى-الجمهورية

مقالات ذات صلة