“المقاومة” من دون أهلها: ما قصد وفيق صفا بــ“تركيز “الحزب” في المرحلة المُقبلة على الداخل”؟

المقاومة والحرب مفهومان مرتبطان بالصراع، لكنّهما يختلفان في الأهداف. فالمقاومة هي شكل من أشكال النضال ضدّ قوّة معادية أو احتلال، وغالباً ما تكون منظّمة من قبل مجموعة أو شعب يهدف إلى تحرير أرضه أو حماية حقوقه. يمكن أن تكون المقاومة سلمية أو مسلّحة، وتتركّز عادةً على الدفاع عن الهويّة أو السيادة.

أمّا الحرب التي سلك مسالكها “الحزب” فهي صراع مسلّح واسع النطاق مع دول أو جماعات منظّمة، وتهدف إلى تحقيق أهداف سياسية أو عسكرية. تتميّز الحرب باستخدام القوّة العسكرية بشكل مكثّف ومنظّم. وهذا ما فعله “الحزب” مع سوريا والعراق واليمن وضدّ “داعش”. مع “الحزب” صارت المقاومة من دون أهلها لأنّ تنظيمه ينشد الحرب دائماً.

الحيرةُ بين الحرب والسّلم

غداة انسحاب العدوّ الإسرائيلي من القرى العشر التي كانت محتلّة في جنوب لبنان مع بقائه في تلال خمس بلبنان بناء على تقديره أنّها “نقاط حماية” لمستعمرات في شمال فلسطين المحتلّة، ذُعِر لبنانيون من حروب أخرى تحت مسمّى “المقاومة”، الذي يستعمله “الحزب” لتسليح ذاته، بوصفه جيشاً مقاتلاً امتهن وبرع في شنّ الحروب في لبنان وسوريا والعراق واليمن، علاوة على وحداته الأمنيّة التي جابت دولاً عربية (الكويت، مصر السعودية) منذ ثمانينيات القرن الماضي.

فيما يتداول اللبنانيون فرحين البيان الوزاري الذي جاء خلواً من عبارة “المقاومة”، يلهجون بعبارة “حرب مقبلة” مع العدوّ الإسرائيلي ما دام مفوّهو “الحزب” يؤكّدون أنّ قوّة الأخير على حالها، وما داموا يفصلون بين منطقة جنوب الليطاني “المنزوعة السلاح”، وبين منطقة شمال النهر التي تستمرّ مسلّحة حتى الأسنان، بمعنى أنّ الحرب الأخيرة مع إسرائيل لم تكن الأخيرة، وأنّ القرار 1701 يبقى مُعلّقاً كما كان بعد حرب عام 2006.

لم يحدث أن اختلف اللبنانيون مع “الحزب” على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي التي نهض بها أوّلاً اليسار اللبناني تحت اسم “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)”. الخلاف مع اللبنانيين كان على معنى مفردة “المقاومة” التي استخدمها “الحزب” لشنّ حروب ولتخريب علاقات لبنان مع المجتمعَين العربي والدولي. والفارق كبير بين المقاومة وبين الحرب.

ترداد المُكرّر

العبارات الكثيرة عن “القوّة التي لا يزال يتمتّع بها “الحزب” واستعداده لمواجهة إسرائيل” تذهب إلى توكيد ما كان يقوله الأمين العامّ الأسبق السيّد حسن نصرالله وقادة “الحزب” عن عزمهم “تحرير القدس” من لبنان، وكأنّ اللبنانيين يتجادلون إيجابياً على هذا “الحزب” ووظائفه وأدواره. كما أنّ هذه العبارات تذهب إلى القول: يُجمع اللبنانيون علينا وإن انقسموا إلى طوائف وأحزاب. وهذا ليس صحيحاً لأنّ “الحزب” منذ أن أطلّ مطلع الثمانينيات كان بيانه يُعلن جهاراً وجهته نحو الدولة الإسلامية، في حين أنّ “جمول” اعتبرت تحرير الأرض مهمّة يحصل في سياقها بناء وطن ديمقراطي.

يحدث هذا بينما كان وفيق صفا رئيس وحدة الارتباط والتنسيق في “الحزب” يطلّ مساء الإثنين الماضي عبر قناة “الميادين” مؤكّداً أنّ “الحزب لا يزال يحتفظ بقوّته… وتركيزه في المرحلة المُقبلة على الداخل”. هكذا يبقى السؤال الشائع: ما معنى أن يحتفظ “الحزب” بقوّته، وأنّ تركيزه على الداخل؟

سؤال مبتور ما لم يُربط بحقيقة أنّ حظوظ الحرب ترجح على السلم الوطني ما دام البلد مليئاً بالأسلحة، وبعمل أمني على ما توضح عبارة صفا من أنّ “تركيز “الحزب” في المرحلة المُقبلة على الداخل”.

المُقاومة المُجرّدة

تطلب المقاومة العدالة وبناء الدول الديمقراطية. هكذا أرادت “جمول” تشبّهاً بما فعلته المقاومة الفرنسية بوجه النازيّة. مقاومة “الحزب” عبثت بلبنان كلّه، حتى السلم الأهلي البارد عبثت فيه. سعت إلى الحروب دوماً. هكذا حصل في أعوام 1993، 1996، 2000، و2006. حتى إنّها شنّت شبه “حرب أهلية” في 7 أيار على بيروت والجبل في عام 2008، ثمّ عادت ودخلت في “حرب إسناد لغزة” من دون الأخذ بالاعتبار أزمات لبنان السياسية والاقتصادية، وحتى من دون الاستماع إلى رأي غالبيّة اللبنانيين. فكان ما كان من حربٍ إسرائيليةٍ على لبنان لم تتوقّف لمدّة 66 يوماً.

حقّ الشعوب عموماً، واللبنانيين خصوصاً، في مقاومة المحتلّ تمليه الكرامة الوطنية ومنطق السيادة والمصالح والأخلاق، وبهذا يكون حقّ المقاومة أكثر بداهة ما دامت المقاومة مهمّة وليست مهنة. فللمقاومة تاريخ للبداية ومثله للنهاية. لكنّ “الحزب” معروف تاريخ بدئه، وترك تاريخ النهاية مفتوحاً على تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي.

تدمير القواسم المشتركة بين اللّبنانيّين

أناب “الحزب” نفسه عن لبنان الموسوم بالمتنوّع وبالتعدّد في حين راح يركّز مع بيئته على هويّته المذهبية. صارت “المقاومة الإسلامية” بديلاً للاحتلال الإسرائيلي جرّاء تفرّدها بحمل السلاح واقتناء غيره من نوع كاسر للتوازن، وجرّاء أساليب الترهيب لكلّ اللبنانيين وللمُعارضين لها. لم تعد لديها قواسم مشتركة مع عموم اللبنانيين، بل صارت صاحبة مشروع خارجي هو بالتعريف إيراني.

صارت “المقاومة الإسلامية” تتصدّر على اللبنانيين بما تمثّله ديمغرافياً، وليس بما تفعله، وهو قليل حدّ الندرة. تجاوز أذاها أذى الاحتلال الإسرائيلي، فراحت بسلوكها تفكّك مناطقها عن غيرها من المناطق اللبنانية، وانقسم اللبنانيون بين اثنين: الأوّل لا حول له ولا قوّة، وأمّا الآخر فيحمل السلاح ومناطقه لا تخضع لسلطة الدولة.

هكذا صار اللبنانيون غير متساوين في امتلاك مصادر القوّة، وكذلك في الخضوع للقوانين. وعلى هذا بات “الحزب” رديفاً للحرب لأنّه يمتلك أدواتها ويحمل أفكاراً غريبة عن الاجتماع السياسي اللبناني العامّ.

استعمل الحزب “سرايا المقاومة” رديفاً للـ”المقاومة” حتى يخترق بها النسيج الاجتماعي الوطني ويذرّره. وبرّر لنفسه الانخراط في الحرب الأهلية السورية، واستسهل معاداة المملكة العربية السعودية من خلال مناصرته للـ”الحوثيين”، علاوة على خبرائه وضبّاطه الذين أرسلهم إلى العراق لمؤازرة “الحشد الشعبي”. هذا كلّه لم يبلغ ما بلغه مصطلح “وحدة الساحات” الذي صار يجمع مع الآخرين ويُفرّق بين اللبنانيين ويمزّق هويّتهم الوطنية ويعيدهم إلى هويّاتهم الطائفية والمذهبية. وعليه صار يذوب في الكيانات الأكبر ويغادر لبنان الكيان الأصغر.

بالنتيجة، تهدف المقاومة إلى التحرّر من الاحتلال أو القمع، أو الدفاع عن الحقوق والمصالح المشروعة. وقد تكون أهدافها محدودة، مثل إنهاء الاحتلال أو تحقيق الاستقلال. أمّا الحروب المتعدّدة والكثيرة التي دخلها “الحزب”، فقد هدفت إلى تحقيق أهداف استراتيجية لإيران وجعل الأخيرة قوّة استراتيجية.

ايمن جزيني- اساس

مقالات ذات صلة