“فوعة” الجرائم: هل هي عفوية أو مُحضّرة؟

أقلقت سلسلة الجرائم التي وقعت في الأيام الأخيرة المجتمع اللبناني، إلى درجة أنه يمكن القول إن الأمن إهتز، وخصوصاً أن بعضها طال رموزاً دينيّة لها مكانتها، ما دفع الأجهزة الأمنية إلى حالة من التأهب والبحث والتحري عن طبيعة هذه الجرائم التي لا تزال، وفق خبير أمني كان مسؤولاً أمنياً سابقاً، بعيدة عن الرسائل السياسية، لأن معظمها تمّ بدافع السرقة أو إشكالات شخصيّة.

والمفارقة أن حالة من التململ تسود بعض المناطق الذي يبدو الأكثر استهدافاً بعمليات القتل والسرقة مثل منطقة الأشرفية في بيروت، علماً أن هذه الجرائم المتنقّلة تبيّن أن بعض مرتكبيها من السوريين والبعض الآخر من اللبنانيين، ولعل أكثرها فداحة كان قتل نائب مطران الأرمن الأرثوذكس الأرشمندريت أنانيا كوجانيان المكلف بإدارة شؤون الطائفة في زحلة وعنجر، داخل منزله في بصاليم بعد أبشع أنواع التعذيب.

لا شك في أن المواطنين اللبنانيين الذين فرحوا بانتخاب رئيس للجمهورية بعد شغور استمر عامين، أصيبوا بالذهول نتيجة التفلّت الأمني الواضح، وبدأوا يطرحون علامات استفهام ما إذا كانت هناك رسالة معيّنة إلى العهد من بعض هذه الجرائم وليس كلّها، لكن الخبير الأمني يستبعد ذلك، معتبراً أن الجرائم تحصل وتتكاثر بسبب استسهال المجرمين وشعورهم بضعف الدولة، فيرتكبونها بدم بارد وسط انحلال تام لمؤسسات الدولة وأجهزتها، وعجزها حتى عن تطبيق الأمن الاستباقي، ما فتح المجال أمام عصابات وأفراد من هنا وهناك، أن يسرحوا ويمرحوا كما يحلو لهم ضاربين بأمن المجتمع وأخلاقياته عرض الحائط، مستشعرين ضعف الدولة وقضائها ومعوّلين وبثقة مرتفعة على الإفلات من العقاب.

لا بد من الاعتراف بأن هناك أسباباً عدة تؤدي إلى حالة من الفوضى الأمنية التي يعيشها اللبنانيون هذه الأيام، أهمها الحالة الاقتصادية والمعيشية التي ترخي بظلّها على سكّان لبنان، يليها السلاح المنتشر بين الناس، ووجود عدد كبير من السوريين في لبنان وربما تكون أوضاعهم غير قانونية أو شرعية من حيث الإقامة، وطمع بعض اللبنانيين بأموال المستأجرين الذين لا تُعرف خلفياتهم ومشكلاتهم النفسيّة أو أوضاعهم الاجتماعية، ضعف القضاء وعدم تطبيق عقوبات رادعة بسبب تدخّل السياسيين.

وتشير دراسة أكاديمية لنخبة من الحقوقيين اللبنانيين إلى أن ضرب المنظومة القضائية والأمنية ساهم في تفشّي الجريمة، حيث لا يُلاحق السارقون والمجرمون ولا يحاسبون، مقابل الاحتكام الى الفوضى واضطهاد الأقوى للأضعف، هذا كلّه يساهم في تكاثر الأعمال الجرميّة، إضافة إلى أن تفلّت بعض المسؤولين المتورطين في جريمة العصر بتفجير المرفأ من المساءلة، وعدم خضوعه للتحقيق، ترك أثراً في اللاوعي الجماعي، بحيث أصبح كثر يستسهلون ارتكاب الجرائم والاحتماء بمرجعيات سياسية حامية لهم.

تبدو الأجهزة الأمنية غير متماسكة في الآونة الأخيرة، وبدلاً من إطلاق خطة أمنية سريعة لتبسط سلطتها على الأرض، تقف عاجزة أمام هذه الجرائم أو تكتفي بالقاء القبض على المجرمين بعد حصول الجريمة فيما المطلوب أمن استبقائي، ويتحدث الخبير الأمني عن ضرورة تشكيل حكومة جديدة بسرعة لتفادي الأسوأ على هذا الصعيد لئلا يرتفع معدّل الجرائم أكثر ونصبح أمام ظاهرة مرعبة تؤدي إلى مظاهر من الأمن الذاتي في بعض المناطق اللبنانية. ويلفت إلى أن هناك ضرورة لتحديث العمل الأمني، مشيراً إلى أن مراكز الشرطة في الولايات المتحدة وغيرها تستخدم برامج معلوماتية “للتحليل الاستباقي” ترتكز على الخوارزمية، بغية محاولة استباق الجرائم قبل حدوثها. ويمكن تشبيه هذا المفهوم بالخيال العلمي أو بأفلام من قبيل “ماينوريتي ريبورت” للمخرج ستيفن سبيلبرغ، لكن التحليل الاستباقي مسألة جدية جداً في نظر الشرطة الأميركية في ممفيس ولوس أنجليس وأيضاَ في نظر الشرطة البريطانية والبولندية. والمبدأ الذي يقوم عليه هذا المفهوم بسيط، فللمجرمين سلوك يمكن تتبعه، وبفضل برنامج معلوماتي شبيه بذلك الذي تستخدمه المتاجر الكبرى والمواقع الالكترونية لتحديد الميول الشرائية لدى الزبائن، تستطيع الشرطة أن تحدد مكان حدوث الجريمة المقبلة وبالتالي أن تمنع وقوعها أحياناً.

كل ما يحصل، ولو كان بعيداً عن الاعتبارات السياسية، إلا أنه يؤثّر على عهد الرئيس جوزاف عون الذي يعتبره اللبنانيون واعداً، وبالتالي كل يوم تأخير في تأليف الحكومة سيعرّضه للتآكل، وازدياد خيبة الأمل لدى الشعب اللبناني.

جورج حايك- لبنان الكبير

مقالات ذات صلة