لا خيار آخر: تخلّي “الحزب” عن سلاحه!
كل شيء ممكن، بشرط أن تكون هناك دولة، وأن يُنتخب رئيس للجمهورية، وأن تتولّى حكومة قوية ذات صلاحيات التصدّي للاستحقاقات الصعبة في المرحلة المقبلة. الممكن الأكثر أهمية الآن هو تجريد “حزب إيران/ حزب الله” من سلاحه غير الشرعي، وليكن حزباً سياسياً لبنانياً كسواه. لكن شروط تحقيق هذا الممكن غير متوفّرة حالياً، وليس معلوماً متى تتوفر، لأن “الحزب” لا يزال قادراً على ممارسة التعطيل بواسطة “حلفاء” لا يهمهم أن يبدأ لبنان بتجاوز مسلسل الأزمات: ما قبل الحرب (الانهيار الاقتصادي)، والحرب (الدمار الواسع)، وما بعد الحرب (إعادة الاعمار). وهي أزمات لم يبالِ بها “الحزب” بل فاقمها بمشروعه الإيراني وسيطرته على الرئاسة والدولة، ثم بذهابه الى حرب ضد عدو إسرائيلي متوحّش لم يتردّد في التوعّد علناً بأنه سيحوّل أجزاء من لبنان الى “غزّة ثانية”.
عندما حُدّد موعدٌ لانتخاب رئيس كان متوقعاً ومطلوباً أن تُظهر أطراف المنظومة السياسية، قولاً وفعلاً، شيئاً من المسؤولية والجدية. وقد أشاعت انطباعاً بأنها اقتربت من استيعاب دروس الكارثة التي حصلت لتوّها، إلا أنها سرعان ما استعادت الألاعيب نفسها، ليتبيّن يوماً بعد يوم أن موعد التاسع من كانون الثاني 2025 ليس مؤكّداً ولا مضموناً. وكان ذلك متوقعاً لأن الأطراف نفسها لا تزال أسيرة مصالحها وحساباتها التي تعلو على مصالح البلد. وهذا يتماشى مع مآرب “الحزب”، إذ لا مصلحة له في أن يبدأ مسار استعادة الدولة.
أنهى “الحزب” حربه التي لم يردها اللبنانيون بهزيمة قاسية له وللبنان، لكن البلد يريد أن يستأنف حياته لا أن يرهن مستقبله بمصير “حزب” لم يعد واثقاً بمستقبله ولا قادراً على فرض إرادته وخياراته، لأن مرجعيته الإيرانية تلقت بدورها هزيمة لا تقلّ قسوة وتبحث حالياً عن خيارات خاصة لإنقاذ رأسها ونظامها. لم يستغرب أحد أن يقول “الحزب” إنه “انتصر”، فقياساً الى تقاليده الدعائية كان ذلك “الانتصار” معلناً حتى قبل انتهاء الحرب. لكن قبوله اتفاق وقف اطلاق النار أظهر واقع الهزيمة على حقيقته، إذ يمنح الاتفاق إسرائيل “حق” الاستمرار في عملياتها ضدّه (بضمان أميركي)، وينص على اشراف هو في الواقع وصاية أميركية على مجريات تنفيذ القرار 1701 الذي يتضمن أيضاً تنفيذ القرارين 1559 و1680 اللذين نصّا منذ عشرين عاماً على محدّدات ما يريده اللبنانيون، وهو استعادة الدولة سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية.
وإذ سعى “الحزب” الى فرض سرديته الانتصارية بهدف شدّ عصب “بيئته” ومحازبيه، فإن أحداً لن يمنعه، لكن جمهوره تغيّر ولم يعد يصدّق الأكاذيب وباتت نقمته عليه أكبر من أن تُدارى بالخطب والشعارات. أما إذا أراد مواصلة استخدام سلاحه لترهيب الداخل وتهديد السلم الأهلي، فإنه سيدرك سريعاً أن هذا النمط من البلطجة لم يعد مجدياً ولن يحصد النتائج التي يتوخّاها، وقد يجد نفسه حزباً منحلّاً بحكم القانون. أصبحت هناك روادع ذاتية وموضوعية كثيرة أمام “الحزب”، فهو من جهة لن يستطيع الاعتماد على تمويل إيراني لتعويض خسائر عشرات آلاف العائلات التي وثقت بإدارته “العقلانية” للحرب، ومن جهة أخرى لن يستطيع إيجاد “مصادر أخرى” لتعويض خسارة سوريا كممر للأسلحة الإيرانية. والأهم أنه خسر أمينه العام السابق الذي كان شخصية رئيسية في محور “الممانعة” وفي اجتذاب جمهور لبناني وعربي الى تأييد شعار “المقاومة”، لكنه انتهى الى جعل محازبيه مصدر خطر على جيرانهم أينما حلّوا.
من المؤكّد أن “الحزب” يراهن منذ الآن على تفسيره الخاص لاتفاق وقف اطلاق النار بأنه يختصّ فقط بإخلاء “جنوب نهر الليطاني” من مقاتليه وأسلحته ولا يسري على أنشطته في شمال الليطاني. في ذلك تحايل على الشعب اللبناني قبل أن يكون على العدو الإسرائيلي وحليفه الأميركي، وفيه أيضاً مراهنة على أن شيئاً لن يتغير كما لو أن الحرب لم تكن وأن “الحزب” سيتمكّن من مواصلة دوره السابق باللعب على قوى سياسية لن تتغيّر بدورها، فهو خبرها وحمى فسادها وسرقاتها وانتهازياتها، وهي حمت سلاحه وجرائمه وسلمته مقاليد الدولة والأمن والقضاء والاقتصاد الموازي والحدود السائبة ومصانع الكبتاغون وشبكات التهريب. وطالما أنه لن يتخلّى عن وضعه كميليشيا، فهي تريد الاستمرار على وضعها كمافيا. قد يكون الاثنان مصيبَين، لكن هذه المعادلة المبنية أساساً على الطائفية والمذهبية لا يمكن أن تبني دولة، ويجب أن تتغيّر، بل يجب أن تنكسر نهائياً.
وهناك الآن فرصة لكسرها، هناك أمل ضئيل يمكن أن يكبر، لأن لبنان يتأثّر بمحيطه، ولأن متغيّرات كثيرة طرأت على المنطقة وعلى السياسات الدولية: النظام الأسدي سقط، المشروع الإيراني انهار، نظام المصلحة العربي يتبلور بثبات، دولة الاحتلال الإسرائيلي خاضت حرب إبادة جماعية لن تمكّنها من تصفية قضية الشعب الفلسطيني ولن تستطيع أن تهرب بها الى “قيادة المنطقة” كما تدّعي… صحيح أن صراعات عدة مرشحة للبروز مجدداً، وأن سوريا والعراق واليمن مقبلة على مفاجآت، غير أن لبنان معنيٌّ أكثر مما مضى بأن يصون كيانه ويحيّد نفسه عن تلك الصراعات، خصوصاً بعد زوال مبررات استمرار الارتباط بإيران أو بنظام أسدي لم يعد موجوداً. كان “الحزب” دُعي مراراً للعودة الى لبنان، وهو أصبح الآن مضطراً لذلك فلا خيارات أخرى له. ولكي يكون “لبنانياً” لا بدّ من مراجعة عميقة وصعبة، ومن تصفية ميليشيا “الحزب” كل ميليشيات “الثنائي الشيعي”، وبالتالي المساهمة في نهوض الدولة والركون الى دور الجيش اللبناني لا التهديد بتقسيمه. ما لم يرضخ “الحزب” لهذا الواقع الجديد، والقبول بعودة العرب الى لبنان، فإنه يحكم على اللبنانيين ولا سيما بيئته بالعيش طويلاً وسط الدمار.
عبد الوهاب بدرخان- لبنان الكبير