هذا ما كان يفعله نظام الأسد في المسالخ البشريّة: قصص مرعبة!

كل يوم في سوريا الحرّة يحمل معلومات جديدة عن المعتقلين في سجون نظامها القمعي الذي لا ينتمي إلى النظام البشريّ والانسانيّ لجهة الوحشيّة التي كان يتعامل فيها السجّانون والجلادون مع هؤلاء المعتقلين الذين تنتمي أكثريتهم إلى الشعب السوري الثائر على نظام بشار الأسد الديكتاتوري، وبعضهم من اللبنانيين والأردنيين والفلسطينيين والخليجيين.

ما يهمّنا في الدرجة الأولى وطنياً هو مصير المعتقلين اللبنانيين هناك، وفي الدرجة الثانية انسانياً هو مصير المعتقلين السوريين، وبعد مقابلة بعض هؤلاء باتت لدينا فكرة واضحة عمّا كانوا يتعرّضون له من طقوس تعذيب تصل إلى حدّ القتل أحياناً.

واللافت أن قضية المعتقلين في السجون السورية هي أشبه بالقصص المرعبة التي كنا نسمعها خلال طفولتنا. انها تشبه ذاك المشهد المخيف لـ”البائع” الذي يسير في الشارع وينادي على بيع الخضر والفواكه، وعندما يقترب الأولاد منه يخطفهم ويهرع إلى منزله الصغير على ضفّة النهر حيث يطبخهم ويلتهمهم الواحد تلو الآخر، ثم ينكبّ على حفر القبور ليخبئ ما بقي من عظم وجلد فيها.

صحيح أن بعض هؤلاء المعتقلين قد عاد وفي جسمه ألف علّة وفي عينيه مئات الكوابيس، وبعضهم استشهد، لكن البعض منهم لا يزال مصيره مجهولاً!

الجامع المشترك في شهادات المعتقلين هناك هو سيناريو لا يختلف بالخطوط الرئيسيّة بين معتقل وآخر، فهو نمط محدد كانت تتبعه المخابرات السورية في معظم حالات الاعتقال: فبعد الاحتجاز والاستجواب لمدة تراوح بين ساعات وأيام، كان يخضع المعتقلون خلالها لاستجواب أوّلي ولأنواع مختلفة من التعذيب وسوء المعاملة، اما يُطلق سراحهم أو يُنقلون بعدها إلى سجون يُصبحون فيها من المنسيين بعد محاكمة صوريّة من دون وجود محامي دفاع.

وفي كل مرحلة من مراحل التحقيق، ولا سيما الأولى منها، يتعرّض الموقوفون لأنواع مختلفة من التعذيب، إذ يُعاملون كحشرات، كالضرب بالكابلات والسياط والفسخ والتعليق في الدولاب أو في الكرسي الألماني، وتعذيبهم بالكهرباء، بحيث لا تنتهي جولة التعذيب إلا بعد أن يكونوا قد شارفوا على الموت!

وماذا يمكن القول عن تعذيب معتقل من خلال ضغط رأسه وجعل عنقه مائلاً، والإطباق على أذنه بـ”بنسة”؟ وكيف نصف ذلك العسكري الذي يأمر سجيناً عجوزاً بالانحناء ولحس جزمته ليعود ويصفعه بتلك الجزمة إياها على وجهه؟ وهل تتصوّر أن يقوم عسكريان بإمساك سجين من يديه ورجليه، ثم يؤرجحانه بحركة “بندوليّة” متصاعدة ليطوّحا به في الهواء، وما إن يرتطم جسمه بالأرض حتى يمسكانه من جديد ويكرران اللعبة ذاتها التي لا تتوقّف إلا عندما يصير السجين جثة هامدة؟ وكيف يستطيع الضمير العالمي أن يعيش مع فكرة سجّان كان يستخدم مطرقة كبيرة يرفعها عالياً بمشقّة ثم ينزل بها على العمود الفقري للمعتقل فيتسبّب له بالشلل الدائم؟

هذه عيّنات من نمط الحياة التي عاشها وشاهدها عشرات المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. أما ظروف الاعتقال فبائسة، إذ إن أوضاع السجون أساساً في سوريا كانت سيئة جداً: غرف ضيقة مظلمة لا تتمتع بأي شروط صحيّة، رؤية الشمس والنور ممنوعة، طعام سيء وأحياناً تجويع… يخرج بعدها، من حالفه الحظ وبقي حياً مصاباً بالسرطان والسل ومختلف الأمراض. أما التهم، في حال توجيهها، فهي كالعادة: التعامل مع اسرائيل، الإرهاب الأصولي بمجرد أن يكون مناهضاً للنظام أو الانتماء إلى “القوات اللبنانية”… كل هذا من دون أن يعرف أحد من أهل المعتقلين وحتى محاميهم ودولتهم أي شيء عنهم!

كان سجّانو النظام يحوّلون جميع المعتقلين في السجون إلى أرقام، في محاولة لمحو ماضيهم وذكرياتهم. أما بالنسبة إلى أهاليهم وأبناء وطنهم، فهم لا يزالون يحملون أسماء وصوراً وهويات وذكريات ومشاعر ووجداناً. صحيح أن بعض المعتقلين اللبنانيين عاد، وقد لا يتجاوز عدده أصابع اليد، لكن هناك لوائح تضم عشرات الأسماء، أين هم؟

إذا كان هؤلاء المواطنون اللبنانيون، بعد فتح المعارضة السورية أبواب السجون، لا يزالون أحياء أو أصبحوا من الأموات، فسيكون إهمال الدولة اللبنانية لملفّهم كل هذا الوقت وصمة عار تاريخيّة ستُطبع على جبينها إلى أبد الأبدين.

عائلات هؤلاء أصيبت بالذهول عندما سمعت ورأت المشاهد المروعة من سجن صيدنايا وغيره من سجون الأسد، بعدما دخلت اليها فصائل المعارضة وحرّرت عدداً لا بأس به من المعتقلين، ويلفت رئيس مكتب الأسرى في جهاز الشهداء والمصابين والأسرى في “القوات اللبنانية” ريمون سويدان إلى “أننا لن نفقد الأمل، وخصوصاً أن التواصل مع مسؤولي المعارضة لم يتوقّف، وقد أكّدوا أن هناك سجوناً لم يستطيعوا الوصول اليها بعد، إلا أن الصدمة الكبيرة بوجود الكثير من المقابر الجماعية التي بدأت تظهر في كل المناطق السورية، وقد اكتشف منذ يومين وجود 175 ألف جثة في مقابر جماعية، إضافة إلى مئات الأكياس التي تتضمن عظاماً بشريّة في صيدنايا، لذا علمنا أن هذه الجثث ستخضع لفحوص DNA، وستظهر الكثير من الحقائق، ومن حق أهالي المعتقلين أن يعرفوا مصير أبنائهم هناك، ويبدو أن السلطات السورية الجديدة مهتمّة بمعرفة مصير كل المعتقلين، لذلك جمعت الوثائق واستعانت بخبراء أوروبيين في الأدلة الجنائية ليدرسوا هذه الوثائق وخصوصاً بالنسبة إلى الجثث المحروقة، وعندها سيعلنون عن الأسماء في وسائل الاعلام. وقد تمكّنت السلطات السورية من العثور على جوازات سفر لمعتقلين لبنانيين في صيدنايا وفرع فلسطين، وهذا يُثبت أن هؤلاء مروا في السجون وسنكتشف مصيرهم في المستقبل القريب”.

صحيح أن الآمال تتضاءل في العثور على معتقلين لبنانيين أحياناً، وربما تكون الصورة شبه غامضة، لكن أهالي المعتقلين سيواصلون التحرّك للوصول إلى الخبر اليقين حول ما يُروى عن إخفاء أبنائهم في سجون لا يُعرف مكانها أو في حُفَر ومقابر جماعية يتم اكتشافها بين وقت وآخر.

من غير السهل أن يعيش المرء على وتيرة الموت البطيء في ذاكرة النسيان، كما أن من المستحيل نسيان وجوه الأحبّة المعتقلين المجهولي المصير. ومهما مرّ الزمن، لا يجوز أن يفلت أرباب النظام السوري من أعلى الهرم إلى أسفله، من العقاب، لأن الأدلة الجنائية حول الجرائم التي ارتكبها جلادو هذا النظام، لا تزال متوافرة في أقبية هذه السجون وجدرانها، التي تبقى شاهدة على أجساد الألوف من الأسماء المجهولة وأرواحهم!

جورج حايك- لبنان الكبير

مقالات ذات صلة