نَعَمْ نَصْرٌ مرٌّ: نَعل كل شهيد مقاوم أرفعُ شأنًا وأعلى مقامًا من كل الكيان الصهيوني

* الانهزام: هو الاتجاه الطّوعي نحو الهزيمة

في العادة يستنفر النصر مشاعرَ فرحٍ، تنتفخُ فيه الأنا، يزدهي به المنتصرون، تعبّر الثقة عن نفسها بخُيَلاء، تزدحم الساحات بالمهنئين، تعلو الأصواتُ، تتدفق التصريحات، يكثر الأدعياء، ويتنافس أهل الرأي والفكر وخبراء السياسة والتاريخ في تحليل النصر وأسبابه وأبعاده وفي التنبيه من بعض ما قد يسيء إلى أهدافه و…

وفي العادة أيضًا: إنّ النصرَ نجاحٌ في تحقيق الأهداف، أو في منع العدو من إنجاز ما يبتغيه جراء عدوانه. ويكفي تحقّق أحد هذين الأمرين حتى يستشعر الناس مذاق الانتصار.

وعليه، ورغم ذلك كله، فإنّ مذاق الانتصار هذا يستشعره أهلُهُ مرًّا هذه الأيام، فضلًا عن الآخرين. ولذلك مجموعة من الأسباب نختصرها بما يلي:

أولًا: غياب التناسب بين المناخين الإعلاميين المتعارضين، مناخ الداعمين لخيار المقاومة وجدواه، على الأقل في هذه الحرب العدوانية الصهيونية، وأهل الإعلام في هذا المناخ وطنيون ومحليّون هم خارج بطن الحوت الإعلامي المروّج لجبروت القوى الدولية الحاضنة للعدو الصهيوني والداعمة لأدائه العدواني الوحشي ولكل ما يلزم هذا الأداء من سلاح وذخائر وشراكة في التخطيط وضغوط في المنتديات الدولية وأثير مفتوح ووسائل إعلام تملأ فضاءات دول العالم القريب والبعيد. فكل هؤلاء يمثلون المناخ الآخر المتسلّط على عقول وأذواق الرأي العام المحلي والإقليمي.

ووسائل إعلام المقاومة ليس بمقدورها، لأسباب موضوعية، وبدون مكابرة، أن تُجاري ضخامة وحشد الإعلام المضاد وماكينته.

المقاومة الإسلامية في حربها ضد العدو الصهيوني سواء في دعمها وإسنادها لغزة وشعبها الأبي الصابر والمحتسب أو في تصدّيها للحرب العدوانية الصهيونية التي استهدفت احتلال أراضٍ لبنانية وإنهاء وجود المقاومة وقدراتها وترسيم موازين جديدة للشرق الأوسط الجديد الموهوم، في كلا الحربين أو المرحلتين أحبطت المقاومة الأهداف الأهم لدى العدو وأربَكَت عدوانه وشتّتت أولوياته واضطرّته في نهاية الأمر إلى وقف إطلاق النار وفق اتفاق مع لبنان لم يمس القرار 1701 المعمول به منذ حرب تموز 2006، لكنّه سجّل بعض المكتسبات التكتيكية ليُغطّي فشلًا وخيبة مُرّة جَدّدت له في بلدة الخيام عقدةً تاريخية جديدة تُضاف إلى عقدة بنت جبيل في تموز 2006، حيث لم يستطِع أن يُلغي عن كيانه وصمة أنّه «أوهن من بيت العنكبوت».

وفي حين لم يتمكن من إعادة المستوطنين إلى الشمال إلا وفق اتفاق مع لبنان، فإنّه في غزة قد لا يستطيع استعادة المخطوفين أبدًا إذا لم يستجب لاتفاق أيضًا مع حماس وبموافقتها أيضًا.

ثانيًا: تبنّي المقاومة عنوان دعم وإسناد غزة وشعبها ومقاومتها بوجه العدوان الصهيوني المتوحش، وهو تَبَنٍّ إنساني وأخلاقي وقانوني وسياسي مشروع ومُبرّر، إلا أنّ الترويج والتسويق لحيثياته كانا قاصرين أمام استنفار كل الآخرين الملتحمين، لدوافع وأسباب شتّى، بالمناخ الداعم أو المبرّر للعدوان الصهيوني على غزة، أو على الأقل غير المقتنع بجدوى موقف المقاومة الداعم لغزة والمساند لها.

لقد كان من الصعب جدًا إقناع هؤلاء بأهمية وبأبعاد وأهداف الدعم لغزة فيما الصور التدميرية الهائلة والمتلاحقة تتوالى على الشاشات مع صور النزوح والدماء والشهداء والجرحى واستهداف المباني السكنية والأحياء الأهلية والمدارس والمستشفيات وسط صمت إقليمي ودولي مُطبق ومناخ تآمري حجب حتى البكائيات على ما يجري هناك، ضمن حصار كامل لتمرير كل جرائم العدو ضدّ الإنسانية وتنفيذه الإبادة الجماعية وانتهاكه الموصوف لكل حقوق الإنسان ولما سُمّي بالقانون الدولي.

ثالثًا: تضخم النزعة الكيانية لدى البعض (شخصيات وقوى) في لبنان، والهروب من أي اقتراب يتصل بما يجري ضد غزة وفلسطين، وانقسام الرأي العام المحلّي بين مؤيد لهذه النزعة الكيانية المتضخمة التي استنفر بعضهم كل حساسياته وحساباته الداخلية الضيقة، وبين ملتزم ومؤيد ومتفهم وواثق أيضًا من ضرورات المقاومة وخياراتها وقيادتها.

ووسط المواجهة مع العدو، تتقدم محليًا أولوية احتواء الانقسام على أهمية السجال وفتح النقاش على مصراعيه، تلافيًا لكل ما من شأنه أن يعبث باستقرار الداخل.

رابعًا: استشهاد سيد المقاومة وقائدها والناطق باسمها والرمز المحبوب وصاحب الصدقية في كل ما يقول ويفعل ويبشّر ويتوعد. وقد جاء الاستشهاد في بداية احتدام المواجهة مع العدو الصهيوني وفي سياق تنفيذه لاعتداءات متتالية وغادرة وممنهجة وخلال فترة لم تتجاوز الشهر الواحد، طاولت أهدافًا منتخبة وتمسّ بيئة المقاومة عبر مذبحة البايجرات، وقيادات فاعلة فيها من الصف المتقدّم وصولًا إلى استهداف سماحته بشكل مباشر مع عدد من القياديين. ثمّ أتبع ذلك بعد أسبوع واحد فقط باستهداف العضد والمعتمد السيد هاشم صفي الدين القائد المجاهد وصاحب المهام الصعبة والمعقّدة في حزب الله.

إنّ هذا لِوَحدِه لو أصاب جيشًا قويًا نظاميًا أو دولة من الدولة، لصدّع البنيان وهدم الهيكليات وأحدث اضطرابًا لا قدرة على احتوائه. فيما استطاعت بنية حزب الله أن تمتصّ المفاعيل المباشرة لهذه الاستهدافات، وأن تُرمّم مؤقتًا بعض المواقع والتصدّعات وعاودت الإمساك بمتطلبات التحكم والسيطرة، ضمن الحدود التي تتيح للمقاومة مواصلة مهامها في الميدان والتصدي المباشر لمراحل العدوان الصهيوني المعروف والمقدّر، والذي تمّت من قَبل التحضيرات والبدائل لمواجهته بإشراف وإمضاء سماحة الحبيب القائد والشهيد الأسمى على طريق القدس السيد حسن نصرالله رضوان الله عليه.

ولأنّ سماحته كان يدرك صعوبة المرحلة وضرورة مواكبتها تعبويًا منه شخصيًا بالتحديد، أفرغ كل ما في جعبته من شرح وتحفيز وتفهيم لأهل المقاومة وبيئتها ومؤيديها، وعمَدَ بعد حسم موقف المواجهة والثبات بوجه العدو حتى النصر، سواء بالشهادة أو بالنجاح في الميدان، إلى إحالة الجميع قيادة ومجاهدين وبيئة ومؤيدين ومتابعين إلى الميدان الذي أكّد أنّه هو الذي يحسم الأمور وعلى ضوء نتائجه تستقر الأوضاع.

وإلى ذلك كله فإنّه أبقى باب التفاوض غير المباشر مفتوحًا لإنجاز وقف العدوان وإفشال أهدافه وفق ما يُحقّق مصلحة المقاومة والشعب والوطن وصَونَ سيادته واضعًا غالي ثقته بدولة الرئيس بري في إدارة التفاوض لتحقيق هذه المصلحة، وهو المعبِّرُ من موقعه الأخوي والرسمي عن وحدة الحال والمصير والمصالح والأهداف المشتركة بين حزب الله وحركة أمل والبيئة الحاضنة لهما ومصلحة وطننا لبنان.

لهذه الأسباب الرئيسية الأربعة التي ذكرنا، يصير الانتصار على العدو في هذه المرحلة مرًّا، إذ أنّ نَعلَ كل شهيد مقاوم أرفعُ شأنًا وأعلى مقامًا من كل الكيان الصهيوني غير الشرعي وقيادته العنصرية الإرهابية المتوحشة.

صحيح أنّ ثمن الانتصار على العدو باهظٌ ومرتفع، لكن يبقى أنّ حِفظ الكرامة وبقاء المقاومة ونهجها وصَونَ السيادة الوطنية أغلى وأهمُّ من كل التضحيات.
إنّ المقاومة حين تمنع العدو من احتلال الأرض ومن إنهاء وجودها ودورها وتحفظ سيادة البلاد وتحول دون تحقيق أوهام الكيان الصهيوني الغاصب ومَن وراءَه، بترسيم خارطة جديدة للشرق الأوسط حسب مشروعه، تكون قد أنجزت بثباتها وصمودها وبأس مجاهديها ما تعجز عنه جيوش أنظمة ودول في كثير من الأحيان. وحين تضع أنظمة الغرب الاستكباري ثقلها إلى جانب العدو الصهيوني وتدعمه بكل ما يلزم لتحقيق أهدافه، ورغم ذلك يفشل بسبب شجاعة وثبات وبأس المقاومة وقوة احتضان شعبها لها، فإنّ هذا هو انتصار عظيم رغم مرارة الخسائر والتضحيات التي بُذلت.
لأهلنا الأوفياء الشرفاء الذين حضنوا المقاومة وبذلوا معها التضحيات وتحمّلوا عن كل اللبنانيين مشقات النزوح والتدمير لبيوتهم وقراهم، أن يفخروا بقدرة أبنائهم الأبطال على إسقاط أهداف العدو الصهيوني ومن يدعمه، وكذلك على حفظ وحماية أرضهم وبلدهم وحريتهم وكرامتهم، بدل أن يَسوقَ العدو المتوحش وطننا ودولتنا واللبنانيين نحو الإذعان والاستسلام أو الإقرار بالشروط التي تجعل بلدنا محمية إسرائيلية كما كان يريد ويحلم أن يُنجزه في ما مضى عبر اتفاق الذل والعار في 17 أيار المشؤوم.
نعم، انتصرنا على العدو، وهزمنا مشروعه في لبنان، ونحن الذين يحق لنا التحدث عن البطولة والشهامة والوطنية بكل اعتزاز ورأس مرفوع، ولن يؤثر فينا من يستسهل الهوان والذل ويرتضي الإقرار بما يريد العدو أن يفرضه من أمر واقع على بلدنا ليلحقه بمشروعه التطبيعي الوضيع.
إنّ إعمار ما تهدّم أمرٌ مقدورٌ عليه، لكن الكرامة والشرف إذا سُلبا، فلن يكون ممكنًا استرجاعهما ولا حتى ترميمهما.

محمد رعد* رئيس كتلة الوفاء للمقاومة.

مقالات ذات صلة