هكذا غيّرت مناورة “الثنائي” شكل التفاوض مع هوكشتاين…وقاسم لخصوم الداخل “عائدون بقوة”!؟
لم يكن تاجيل الامين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم لكلمته 24 ساعة شكليا، وانما كان متوقعا، لان الاعلان عن الموعد الاول لم يكن الا جزءا من مناورة تفاوضية تم تنسيقها مع عين التينة في اطار ممارسة ضغط تفاوضي على كيان الاحتلال الذي سبق للمبعوث الاميركي عاموس هوكشتاين ان مارسه قبل زيارته الى بيروت. وكانت “الرسالة” من “الثنائي” واضحة” التشدد الاسرائيلي حول بعض النقاط ستلاقي رفضا علنيا من قبل المقاومة وعبر امينها العام شخصيا لوضع النقاط على الحروف”. عندها طالب هوكشتاين المزيد من الوقت لاعادة جدولة النقاشات حول بندين اساسيين مبهمين كانت اسرائيل تناور بهما، ويتعلقان بآليات لا يمكن ان تبقى مجرد اعلان نوايا يؤجل النقاش حولهما الى وقت لاحق، وعند هذه النقطة جرى الاتفاق على اعلان تاجيل كلمة الشيخ نعيم الى الامس حيث جدد ثقته برئيس مجلس النواب نبيه بري في ملف التفاوض غير المباشر لوقف النار مع كيان الاحتلال، ملمحا الى ان التنسيق ليس فقط على اعلى مستوى بين عين التينة وقيادة الحزب وانما الصياغات والملاحظات مشتركة، وكانت ضمن ورقة موحدة جرى التفاوض عليها ليومين مع المبعوث الاميركي عاموس هوكشتاين في عين التينة وعوكر.
ووفق مصادر مطلعة، كانت هذه المناورة فاعلة جدا، فهي منحت الرئيس بري مرونة تفاوضية مهمة للغاية بعدما اصر على اقفال باب التاؤيلات في النص المتفق عليه وعدم تركه عرضة “لشياطين” التفاصيل في اسرائيل، خصوصا ان هذه الاحداث تزامنت مع ضرب المقاومة لوسط تل ابيب، وهو ما سحب ورقة ابتزاز خطيرة من يد الاميركيين والاسرائيليين. وهكذا فان ما يحمله هوكشتاين الى دولة الاحتلال بنود لا تحتمل “سوء النية” او “سوء الفهم” ولا مجال لرئيس حكومة دولة العدوان ان يتملص من التفاهم بحجج واهية ترتبط بعدم وضوح الموقف اللبناني، واذا ما حاول المناورة فانها ستكون مكشوفة ولا تحمل لبنان اي مسؤولية عن استمرار الحرب.
واذا كان الرئيس بري يردد المثل القائل” يجب ان نلحق الكذاب على باب داره” الا انه لمس من هوكشتاين رغبة كبيرة في احراز تقدم، وبرزت جديته من خلال تاكيده انه يمثل ادارة بايدن لكنه نسق مهمته مع المسؤولين في ادارة ترامب، كما ان الوقت الذي منحه لعملية التفاوض من خلال الاجتماعات الماراتونية وانفتاحه على الدخول في التفاصيل، اوحت انه مصر على الخروج بنتيجة ايجابية في مهمته الاخيرة قبل ترك العمل الديبلوماسي. لكن ولان حزب الله وبري لا يعولون على مصداقية اميركية مفقودة في الاصل، وبالتالي لا يمكن الرهان بحصول ضغط جدي على نتانياهو اذا ما قرر غدا “تمزيق” الورقة، فكان لا بد من موقف قوي عبر الشيخ قاسم لدعم عملية التفاوض بسقف عالي في محاولة “لتبريد الرؤوس” الحامية في تل ابيب.
وفي هذا السياق، طمأن الشيخ قاسم الموالين، والاصدقاء، واقلق الخصوم، والاعداء، باعلان جهوزية المقاومة لخوض معركة استنزاف طويلة ضد جيش الاحتلال اذا ما قرر الاستمرار في عدوانه، وكرس رسميا معادلة بيروت –تل ابيب بعدما اثبت حزب الله انه قادر عمليا على الوصل الى شوارعها، ومناطقها السكنية، والحيوية، وان مسألة استهدافها كانت قرارا وليست عجزا. هذه المعادلات تمنح الطرف اللبناني موقعا تفاوضيا مريحا، وتنقل الضغط على الطرف الآخر الذي عليه ان يختار اما التوقف عن عدوان لم يعد بامكانه ان يحقق من خلاله اي نتائج اضافية، او ان يترك مستوطنيه تحت نار الصواريخ وجنوده في “مصيدة” المقاومة. فحزب الله لم يعد لديه ما يخسره، اعاد ترتيب اوضاعه الداخلية وكل يوم اضافي يعمل لصالحه خصوصا ان طرق امداده بالسلاح والمقاتلين مفتوحة وان كانت صعبة بعض الشيء،هو يحتاج وقفا للنار “لالتقاط الانفاس”، لكن ليس باي ثمن، وما لم ياخذه العدو بالحديد والنار، لن يحصل عليه بالديبلوماسية.
الامر نفسه ينطبق على الاوضاع الداخلية لمرحلة ما بعد الحرب، ولهذا تقصد الشيخ قاسم طرح اربعة عناوين داخلية تتعلق بالرئاسة، والطائف، والقواعد الحاكمة في عمل حزب الله السياسي، من خلال التمسك ببناء الدولة، والردع في آن واحد، وبمعادلة “الجيش والشعب والمقاومة، ووفقا لتلك المصادر، توقيت هذا الموقف مهم للغاية وليس امرا عابرا، وهو ياتي بعد سلسلة مواقف من القوى المرتبطة بواشنطن، ولكن بعد حدثين بارزين الاول، زيارة رئيس حزب الكتائب سامي الجميل الى واشنطن، و تسريبات من “معراب” حول طبيعة النقاشات بين جعجع وهوكشتاين، حيث كان “الحكيم” والجميل “ملكان اكثر من الملك”، واعربا عن عتبهما الشديد على الادارة الاميركية لانها تروج لاتفاق يبقي حزب الله على “قيد الحياة”، باعتبار ان الاميركيين لم يعودوا مهتمين باجراء تغيير دراماتيكي داخلي يقلب موازين القوى وحاولوا عبثا اقناع واشنطن بعكس ذلك، لكن الواقعية الاميركية كانت واضحة لجهة عدم وجود ظروف مؤاتية الان، في ظل موازين القوى القائمة.
خيبة الامل لدى “اعداء” الداخل، عززها الشيخ قاسم بالامس بتاكيده على الثوابت واولها حفظ المقاومة. وهو قال صراحة “عائدون بقوة” ولهذا يبدو انهم سيواجهون بعد الحرب حزبا مختلفا في مقاربته الداخلية بعيدا عن “تبويس اللحى”، بعدما ثبت عقم سياسة “تدوير الزوايا”. والثقل الحقيقي لحزب الله المبني على التضحيات الضخمة والكبيرة سيكون واقعا لا يمكن تجاوزه، تحت سقف الطائف، ولا شيء آخر. كما لدى الحزب مهمة ضخمة للغاية في اعادة لملمة الجراح وترتيب الهيكل التنظيمي، واجراء مراجعة للكثير من القواعد التنظيمية والسياسية الداخلية. اما اذا اختار نتانياهو استمرار العدوان، فمعركة “اولي البأس” ستنتقل الى مرحلة اكثر تطورا كما ونوعا، وسيكون امام “رجال الله” مهمة اعادة حكومة نتاناياهو الى رشدها على الرغم من حجم التضحيات المتوقعة. لكن لا خيار عندها الا القتال.
ابراهيم ناصر الدين- الديار