رهائن وسط حرب كبيرة: القرى المسيحية الحدوديّة بين مطرقة اسرائيل وسندان “الحزب”!
حاول المسيحيون في القرى الحدودية الجنوبية النأي بأنفسهم عن الحرب الضروس الدائرة بين اسرائيل و”حزب الله”، وقد نجحوا إلى حد كبير ما بين 8 تشرين الأول 2023 وأواخر أيلول 2024، إلا أن وتيرة الحرب سرعان ما تسارعت واشتدت، ما عرّض بعض هذه البلدات والقرى للاعتداءات الاسرائيلية، بعدما اشتبه الجيش الاسرائيلي بوجود حركة أو شخصيات لـ”الحزب” فيها، على الرغم من تأكيد الفعاليات هناك بأن بلداتهم وقراهم لا تأوي عناصر له.
صحيح أن هذه الأجواء دفعت بعشرات العائلات المسيحية إلى النزوح، لكن الوضع فيها لا يزال مقبولاً بالمقارنة مع القرى الشيعية التي تحوّلت ركاماً، وهذا ما يُفسّر سياسياً بأن الخيار السياسي لأهل هذه القرى هو الحياد أو النأي بالنفس إلى حدّ كبير، ما جعل بعض الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي يتناقل صوراً تقارن بين هذه القرى التي بقيت منشآتها ومبانيها ومنازلها قائمة، فيما أزيلت معالم القرى الشيعية نظراً إلى انتشار عناصر “الحزب” فيها وإتخاذها كمواقع عسكرية له.
لكن أحد الفعاليات في رميش يؤكّد أن المسيحيين هناك محاصرون وسط نيران متبادلة ما بين اسرائيل و”الحزب”، فتمر الصواريخ والطائرات الحربيّة من فوق رؤوسهم. ويلفت إلى “أننا مسالمون، ليست لدينا أي أسلحة. لم نحب الحرب أبداً، نريد البقاء في منازلنا ولا نريد اختيار أي جانب”. لكن الطرق المؤدية إلى خارج رميش غير آمنة، لذا فضّلت عشرات العائلات البقاء فيها بدلاً من التعرّض لمخاطر القصف على الطرق نحو بيروت.
لا تزال منازل رميش مكسوة بالقرميد الأحمر وتحيط بها تلال خضر مزروعة بالتبغ، ولا يزال يقيم فيها ما لا يقل عن 6000 نسمة حتى اليوم، وفق الفعالية المهتمة بالشأن العام هناك.
إلا أن الوضع الاقتصادي وكل ما يتعلّق بالزراعة والتجارة والصناعة بمعنى مقوّمات صمود باتت مفقودة، وتعتبر الفعالية أن “كل من كانت لديه مدخرات أنفقها على مدى الأشهر القليلة الماضية”. وربما ما يدعم وجود الأهالي قليلاً هو المساعدات الانسانية التي تسلّم إلى هؤلاء المواطنين بحماية الجيش اللبناني و”اليونيفيل”، وهي مُقدّمة من الكنيسة المارونية وبعض الأحزاب المسيحية وإعانات من الدول الخليجية.
لا شك في أن “الحزب” حاول مراراً وتكراراً استخدام بعض المناطق السكنية في رميش لأعمال عسكرية، إلا أن الأهالي واجهوه بجرأة ورفضوا ذلك، ما دفعه إلى الإكتفاء بإستخدام بعض المشاعات البعيدة عن البلدة نسبياً لمواجهة اسرائيل، لذلك حافظت رميش على سلامة أبنائها.
في المقابل، يبدو المشهد مختلفاً جداً على بعد كيلومترات من رميش ولا سيما في بلدة عيتا الشعب التي استخدم “الحزب” بنيتها التحتية المدنية لأغراض عسكرية، بما في ذلك مواقع إطلاق الصواريخ ومستودعات الأسلحة في الأنفاق والمخابئ.
بعد إعلان اسرائيل بدء عملياتها البرية المحدودة، روى لنا بعض أهالي قرية القليعة “أن الجيش الاسرائيلي أبلغ سكّان الجنوب، ونحن من بينهم، ضرورة ترك القرية، إلا أننا رفضنا ذلك، وبقيت مئات العائلات في منازلها على الرغم من نقص الوقود والأدوية، وإقفال المستشفيات. وكان هذا الأمر فعل إيمان وتشبّث بأرضنا”.
هؤلاء يسمعون أصوات الانفجارات وهدير الطائرات على علو منخفض، ويشاهدون كل ما يحصل من مآسٍ، ولسان حالهم اليوم: “لقد فرضوا هذه الحرب علينا، ليست لنا أي علاقة بها، لماذا نغادر؟”.
أما عين ابل، فكان وضعها مماثلاً لوضع القرى والبلدات المسيحية الأخرى حتى بدأت اسرائيل غزوها البري المحدود، ويروي الأهالي أنهم تلقوا اتصالات من الجيش الاسرائيلي لإبلاغهم بضرورة إخلاء البلدة على الفور وعدم العودة حتى إشعار آخر. فكان من البديهي أن يأخذ الأهالي هذه التهديدات على محمل الجد، لكن العديد منهم لم يبتعد كثيراً، إنما لجأ إلى دير وبيوت في رميش. باتت عين ابل خالية من السكّان، على الرغم من عدم وجود مواقع لـ”الحزب” فيها، وتصرّف اسرائيل على هذا النحو غير منطقي لأن عين ابل الفارغة قد تسمح لـ”الحزب” نظراً إلى عدم وجود سكّان فيها باستخدامها لتوجيه صواريخ نحو اسرائيل، علماً أن هذا ما حدث في العام 2006، عندما كانت القرية مسرحاً لاشتباكات بين “الحزب” وإسرائيل خلال حرب استمرت 34 يوماً، ما أدى إلى تدمير المنازل وحرق الحقول.
ويوضح أحد سكّان عين ابل من النازحين أن أهل هذه البلدة مسيحيون جنوبيون لا يريدون احتلالاً اسرائيلياً جديداً لقراهم وبلداتهم، لكن للأسف يقحمهم “الحزب” في حرب لا يريدونها بل تسبّب في تهجيرهم، وربما سيُسبّب تدمير بيوتهم إذا استمرت الاعتداءات.
وتعرّضت قرية ابل السقي المسيحية أيضاً لغارات اسرائيلية غير مفهومة، فأصيب كاهن القرية وآخرون.
وأخيراً، لا تبدو حالة مرجعيون أفضل من نظيراتها على الحدود، وينظر إليها “الحزب” على أنها كانت مقراً لجيش لبنان الجنوبي الذي كان متعاوناً مع اسرائيل قبل العام 2000، لكن أهاليها بقوا متشبثين ببيوتهم، راسخين في أرضهم، إلا أنهم معزولون نتيجة قصف اسرائيل لكل الطرق التي تربط مرجعيون بمناطق أخرى في الجنوب. وهذا ما يمنع أهلها من الذهاب إلى المستشفيات أو العيادات.
هؤلاء الجنوبيون ليسوا مع “الحزب” ولا اسرائيل، بل يريدون العيش باستقرار وسلام.
يحاكي وجدان المسيحيين في الجنوب الوجدان المسيحي العام في لبنان الذي لا يعتبر هذه الحرب حربه، بل يشعر هؤلاء أنهم رهائن وسط حرب كبيرة بين اسرائيل وايران تجري فوق رؤوسهم، وهذا ما لمّح إليه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في إحدى عظاته، ويكرّر نداءه كل يوم: أوقفوا الحرب وطبّقوا القرار 1701 كاملاً!
جورج حايك- لبنان الكبير