جـردة حـسـاب: ثقل تركة السلف “الرمز المحبوب…”وسلاح مقاومة “الذّلّ”!
بين مقعده، وصورة “كاريزمية” للراحل حسن نصرالله وعلَمَي الحزب ولبنان، “يحشر” نفسه الأمين العام الجديد للحزب نعيم قاسم في إطار تلفزيوني وأجندة إيرانية وثقل تركة السلف “الرمز المحبوب” في البيئة الشيعية الكريمة.
في كلّ إطلالة من إطلالاته وآخرها تلك الأولى له في منصبه، لا يتوقّف نعيم قاسم عن تكرار ذكر سلفه مؤكّداً ثبات الحزب على الخطّ الأيديولوجي والسياسي والتنظيمي والعسكري الجهادي الذي أرساه نصرالله.
يحتاج الأمين العام الجديد، المتميّز داخل “الحزب” بعمله السياسي والانتخابي بعيداً عن العسكر والمقاتلين، إلى شرعية الجناح العسكري وتأييد “المجاهدين”، فاختار ترداد شعارات سلفه لعلّ “الترداد” يغطّيه لدى هؤلاء. لكنّ الفرق كبير. القريب والبعيد والمناصر والمعارض اجتمعوا على ملاحظة ذلك.
كشفت معلومات أنّ السيّد إبراهيم أمين السيّد كان مرشّحاً بدوره. لكنّ الإيرانيين رفضوه. فألزمت طهران الشيخ نعيم قاسم بالاضطلاع بالمهمّة الصعبة والحرجة في زمن عسير يمرّ به الحزب. فأتته عدّة إشارات إلى المخاطر المحدقة به، لم يكن آخرها قطع الهواء عن قناة “المنار” خلال بثّها لكلمته، برسالة سيبرانية فادحة. تلا ذلك تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي الذي وصفه بالأمين العامّ “المؤقّت” ورأى أنّ وقته “ينفد”، وبعدما قال إنّه يتمسّك “بمسار نصرالله” أجابه الإسرائيليون (إذن) إذاً “سيكون مصيرك مشابهاً”.
يجهد الأمين العام للحزب نعيم قاسم في تضييق الهوّة بين الصورة الراسخة لسلفه لدى الحاضنة الشعبية للحزب، وبين أسلوبه الشخصي بصفته مدرّس كيمياء.
تميّز الراحل نصرالله بكاريزما شَعَرَ الجميع بفقدانها، وتلمّس الفارق بينه وبين الخلف. فالأوّل كان يمتلك قدرة كبيرة على جعل القاعدة الحزبية وحاضنة الحزب تصدّق أيّ شيء يريد أن يجعلها تصدّقه، وأمّا الخلف فلن يتأخّر في دحض كلّ ما تمّ تصديقه لعقود.
للأمانة، الذنب ليس حصراً مرتبطاً بشخصية نعيم قاسم ولا بثقل تركة السلف، بل بما ورّطت به إيران الحزب ودفع ثمنه أهالي الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية أوّلاً وكلّ لبنان تالياً وسقطت معه كلّ الحجج الواهية بـ”صوابيّة” 8 تشرين الأول وما بعده.
المسافة صفر
حاول نعيم قاسم إظهار أنّ الحزب ينتظر التقدّم البرّي ليظهر قوّة مجاهديه وقدرتهم على إنزال الخسائر الفادحة بالعدوّ الإسرائيلي. لكنّ فيديوهات تفخيخ عشرات القرى وتدميرها ومسحها، ونشر صور الأنفاق من داخلها ومن خارجها وهي تتفجّر، علاوة على مقابلات حيّة مع أسرى قادة ميدانيين، أبرزت عقم انتظار لحظة الالتحام بمسافة صفر. كما أدّت استعادة أسطوانة “النصر” إلى فقدان وهجها مع تزايد الخسائر وتفاقم التهجير.
إيران لا تثق بـ”قدرات البدائل”
صرّح نعيم قاسم أنّ الهرميّة التنظيمية تعمل مجدّداً وأنّ جميع المواقع التي اغتيل قادتها تمّ تعيين البدائل فيها. لكن يبدو أنّ رأي طهران مغاير على أرض الواقع، إذ عمدت إيران مباشرة إلى تسيير شؤون الحزب وقيادة غرفة العمليات بضبّاط من الحرس الثوري، وأبقت على مفاتيح وكودات الصواريخ الذكية والبالستية بيدها وفق تقارير ذات صدقية. كما تعلم طهران حجم الخرق الجاسوسيّ للحزب في لبنان خصوصاً، ولمحورها عموماً، وحتى في عقر دارها بشكل أدقّ.
مهما قال نعيم قاسم إنّ “الحزب” لا يقاتل عن أحد، وإنّه يقاتل فقط عن لبنان، فإنّ تصريحات وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي في بيروت وفي نيويورك ومداخلات رئيس البرلمان محمد قاليباف مع رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ومع فرنسا عبر صحيفة “لو فيغارو”، تقلّل من الثقة بكلام نعيم قاسم الذي يحتاج إلى ثقة الحاضنة الشعبية التي كان بإمكان نصرالله وحده “إقناعها” بالشيء ونقيضه. وبعد اغتياله، بات يتعذّر تبرير استرخاص إيران للبنان واللبنانيين ولأهالي الجنوب والضاحية والبقاع.
سلاح مقاومة “الذّلّ”
لا يمكن تجاهل أنّ قوّة “الحزب” الأساسية تبقى حاضنته الشعبية التي وفّرت له الغطاء طوال 4 عقود، على الرغم من تناقضات وتباينات استوجبتها السياسة الداخلية حيناً والازدواجية الإيرانية في التعامل مع الملفّات الإقليمية والدولية أحياناً. لم يفقد الحزب غطاءه الشعبي حتى حين أعلن حرب الإشغال و المساندة لغزّة وحرب الاستنزاف. غير أنّ رحيل نصرالله وما تبعه من خسائر ومآسٍ أظهرا تغييراً في المزاج الشعبي عامة ولدى الطائفة الشيعية الكريمة خاصة.
بالموازاة، أدّت الاغتيالات التي حصلت على مختلف المستويات إلى إعادة نبش تدخّل الحزب في سوريا، حيث أفرزت الحرب هناك قيادات ميدانية جديدة داخل الحزب سُمّيت “بتجّار الحرب الجدد”. منذ 2013، ظهرت البحبوحة عليهم وعلى نسائهم ومنازلهم وسياراتهم وثرواتهم.
عام 2019، تجلّت في الساحات نقمة على الحزب الإقليمي وتدخّلاته و”تجّار الحرب الجدد”، فكان قمع التظاهرات التي شاركت فيها الطائفة الشيعية بفعّالية وكثافة وقلع عيون متظاهرين وإحراق خيام وظهور سلاح يدافع عن الفساد وهريان الدولة، فبات حينها وكأنّ سلاح المقاومة قد تلطّخ بالنسبة لأبناء الطائفة الأحرار وباتت الأحاديث بالمجالس الخاصة لا توفّر انتقاداً للقيادات باستثناء السيّد حسن نصرالله دون غيره.
طيف نصرلله
يعلم الأمين العامّ الجديد كلّ هذه الوقائع. يحاول أن يحييَ نصرالله في خطاباته ويردّد أنّه يسير على خطاه. بقي حتى اللحظة طيف نصرالله هو الغطاء الباقي للحزب ضمن بيئته. لكنّ هذا الغطاء العاطفي وحده قد لا يتمكّن من أن يكون سقفاً لأهالينا الذي يبحثون عن مأوى على أبواب الشتاء المقبل.
على وقع هذه الوقائع، يردّد نعيم قاسم أنّ السلاح منع “الذلّ” عن اللبنانيين، وأنّ السلاح هو لحماية أبناء البلد. فهل من “ذلّ” أكبر من تهجير ثلث سكّان لبنان؟!
على الرغم من أنّ الحديث عن أنّ عملية 8 تشرين الأوّل كانت استباقية قبل تخطيط العدوّ لمهاجمة لبنان، إلّا أنّه لا بدّ من السؤال: أليس من المنطق أن تكون النتائج مختلفة وأن يمنع العدوّ من فعل أفعاله وجرائمه بلبنان وأهله؟ قد تصحّ هذه الحجّة لو لم تكن النتائج كذلك: قتل وتهجير ومسح قرى وعلم إسرائيلي يرفعه العدوّ في قرى الجنوب وثلث سكّان لبنان مهجّرون ويعيشون في الخيام.
على الرغم من كلّ ذلك، لا يزال الحزب يكابر ونعيم قاسم يكرّر: سنتمسّك بمسار الحرب. أليس ذلك ما يريده بنيامين نتنياهو؟
هذه الأسئلة البسيطة لا يمكن للحزب الإجابة عنها. ولا يمكن لنعيم قاسم ملء فراغ سلفه. ولا يمكن لإيران أن تحصل على غطاء من الطائفة الشيعية كما كانت حاصلة عليه طوال 4 عقود.
حتى ذلك الحين، سيعلم اللبنانيون بكلّ أطيافهم وآرائهم أنّ “الدولة” وحدها تجمعهم وتحميهم لأنّ الأحزاب والزعماء ليسوا خالدين.
بديع يونس- اساس