لبنان وإيران…والتعاطي الـ”مستفز”: طهران بعد اغتيال السيد ليست كما قبله
في أول خطاب له كأمين عام لحزب الله، لم يفوت الشيخ نعيم قاسم فرصة الحديث عن إيران. ذَكرَ السلف والخلف، ربط مسيرة الإمام الخميني بمسيرة السيد خامنئي، ليخلص إلى القول إن حزب الله لا يقاتل لأجل أحد وانما لتحرير الأرض، من دون أن تفوته الإشادة بدور إيران “الداعم لمشروعنا”.
يأتي كلامه في توقيت بالغ الحساسية، ويعقب علامات استفهام حول دور إيران في الحرب الراهنة، منذ انطلاقتها وحتى اغتيال الأمين العام السيد حسن نصرالله. كلام كثير قيل وعتب كبير، خصوصاً بعد الاغتيال. ما دفع بأحد النافذين في الحزب حد القول إن من دعم النظام في سوريا لن يسمح بانهيار حزب الله حكماً.
إيران المحاصرة التي تواجه تحديات تجعلها قاب قوسين أو أدنى من الحرب، عززت حضورها في لبنان في الآونة الأخيرة، منذ انطلقت جبهة الإسناد وصولاً إلى اغتيال السيد نصرالله. إذ شكل هذا الاغتيال ضربة لحزب الله دفعت بإيران إلى أن تلقي بثقلها لدعمه.
تدخل أثار الاستياء
حضور لم يلق استحساناً في موقعين: التدخل لمنع فصل مسار الجنوب عن غزة، ثم الإعلان عن استعداد إيران للتفاوض من أجل تطببيق القرار 1701.
في لقاء جمعهما، سجل مسؤول إيراني مقيم حديثاً في لبنان عتباً على مسؤول لبناني لموقفه من وحدة الساحات. فكان جواب المسؤول هل ساندت إيران غزة بالشكل الذي سانده لبنان؟ وتابع يقول لضيفه، اعتبرت إيران أن غزة يحررها أهلها، فلماذا لم نلتزم موقفاً كهذا في لبنان. الزيارة التي تحولت إلى جلسة عتب عكست المناخ المستجد للعلاقة السياسية بين لبنان وإيران.
لم يأتِ كلام وليد جنبلاط الأخير حول إيران من فراغ. قالها بوضوح: “آن الأوان لأن تعلم إيران أن هناك دولة في لبنان”. عبّر عن فائض امتعاض من التعاطي الإيراني مع لبنان نتيجة تراكمات سجلها منذ لحظة استشهاد نصرالله: موقف وزير خارجيتها من البيان الثلاثي الذي يؤكد على تنفيذ وقف النار والتزام تطبيق القرار 1701 جاء مخيبّاً للآمال. ظهرت طهران بنظر جنبلاط وميقاتي وآخرين، دولة تبحث عن مصالحها خلف صواريخ الحزب الذي يقود حرباً مصيرية. تصريحات مسؤوليها “جاءت فاقعة وخارج المألوف”. وإذا كانت “لا تريد خوض الحرب إلى جانب حزب الله فأقلّه”، من وجهة جنبلاط حسب تفسيرات المقرّبين، “لا تحرج الدولة بمواقفها ولا تتدخل مباشرة بالشكل الذي أظهره وزير الخارجية”. زيارة رئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف استفزّت أيضاً رئيس الاشتراكي السابق “تعاطى وكأن البلد بخير”. لمصادره المقرّبة عتب وتساؤلات، “ترفض إيران الدخول في الحرب بينما يخوضها حزب الله بديلاً عنها لتغيير المعادلات”.
علاقة غير مستقرّة
باستثناء حزب الله، لم تكن لإيران علاقة مستقرة ومريحة مع أي حزب لبناني آخر. ولعل العلاقة الأكثر ارتباكاً كانت بينها وبين جنبلاط، وبحسب المراحل. حتى العلاقة مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي كانت في حال من الفتور، ومع التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل، كانت العلاقة تركز على الحد الأدنى من التواصل. ناهيك عن علاقتها بالسلطة الرسمية في لبنان، أي الحكومة، والتي يسودها “التحفظ والامتعاض الضمني”.
تدرّج الموقف الإيراني بعد استشهاد نصرالله، بالإعلان عن قيادة إيران مباشرة للعمل العسكري لحزب الله، ومن ثم الانتقال إلى وضع اليد السياسية على قراره، كما حصل مع رفض وقف إطلاق النار، رغم موافقة برّي ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي وجنبلاط، وكذلك رفض انتخاب رئيس للجمهورية.
بعد نصرلله، برزت إشكاليتان لدى طهران: الأولى إنها باتت مسؤولة عن إدارة الفراغ، والثانية كيفية حماية حزب الله من دون أن تدخل في الحرب. اضطرت إلى إرسال وزير خارجيتها عباس عراقجي ثم رئيس مجلس الشورى قاليباف كي لا يبقى لبنان مسرحاً للضغوط، وإقامة بعض التوازن وإثبات وجودها على الساحة، مع شروع لبنان في مفاوضات وقف النار التي يديرها رئيس مجلس النواب نبيه برّي.
فصل غزة عن لبنان
كانت إيران وحتى اغتيال نصرالله ترفض فصل مسار غزة عن جنوب لبنان. نصح عراقجي اللبنانيين بالصمود وتحدث عن صعوبة فصل جبهة الجنوب عن غزة. قلب الطاولة بوجه الاتفاق الثلاثي والبيان الصادر عنه حول وقف النار وتطبيق القرار 1701. فرمل اندفاعة برّي. هاجمه ميقاتي وجنبلاط بينما التزم برّي الصمت. ثم أتى من يبلغ إيران “إن هذا المنطق بالتعاطي كان يمكن قبوله يوم كان السيد على قيد الحياة، أما بعده فلم يعد ممكناً صرفه، وإذا كان الهدف محاصرة برّي وتقييد صلاحياته فهذه محاولة لإخراج الشيعة من المعادلة”.
بزيارته، تقصّد قاليباف تصحيح خطأ وزير الخارجية. قال إنه نقل رسالة من السيد خامنئي إلى برّي بالنظر إلى موقع المرشد الأعلى في وجدان حزب الله. أبلغه الموافقة على تطبيق القرار 1701 ووقف نار أحادي الجانب. بدلت إيران موقفها. لدرجة ما نقل عن رئيس مجلس الشورى أن إيران مستعدة للتفاوض مع فرنسا بالنيابة عن لبنان.
هذا الموقف الذي جرى الحديث عن خطأ في ترجمته، أو اجتزائه، تكرّر أكثر من مرة وعلى لسان أكثر من مسؤول، ما زاد الشكوك لدى القادة اللبنانيين الرافضين لأي مسّ بالسيادة، وعلى رأسهم باسيل الذي يريد علاقات احترام متبادلة بين لبنان وإيران، وأن يعود القرار في الشأن اللبناني للبنانيين ومن بينهم حزب الله.
وزر إيران
ثمة من يرى أن الأمين عام لحزب الله حمل في حياته وزر هموم المنطقة نيابة عن إيران. ورث مهام قاسم سليماني منذ قُتل، وأمن حضورها القوي في المنطقة من دون أن تظهر في واجهة الحدث.
بعد رحيله، وقفت إيران أمام خيارين لا تنطق بهما: وجدت أن حماية المقاومة ولبنان وعدم دخول الحرب يتأمن من خلال دعم القرار 1701 فقبلت به، وارتضت وقفاً أحادي الجانب للحرب بين لبنان وإسرائيل، وأعلنت تأييدها ما توافق عليه الحكومة اللبنانية بخصوص القرار 1701. ضمناً، لا مانع لديها من تنفيذ القرار، وبذلك تظهر عدم تدخلها بالشأن اللبناني، وأنها استطاعت تجنيب نفسها الحرب حتى اليوم، والحد من الخسائر، وإلا يتحوّل لبنان إلى نموذج غزة ثانية. تدرك أن سقوط المقاومة في لبنان سيسقطها حكماً ويسقط معها محور المقاومة بأكمله.
سيختلف موقع إيران والتعاطي معها بعد اغتيال السيد عن مرحلة ما قبل. بدأت معالم المرحلة المقبلة ترتسم بتصريحات المسؤولين. مرحلة سيكون عنوانها ما قاله ميقاتي “لتخفف إيران عاطفتها تجاه لبنان”.
غادة حلاوي-المدن