“ “صورته الأخيرة لحظة قسّامية بامتياز: يحيى “كان يعلم”… فعلامَ راهن؟
غداة عملية طوفان الأقصى، راح الكثيرون في الشرق والغرب ينقّبون عبر محرّكات البحث ليس عن يحيى السنوار ورفاقه فقط، بل عن الشيخ عزّ الدين القسّام، بعدما أعاد السنوار إرثه إلى التداول من خلال عبارة: “إنّه لجهاد، نصر أو استشهاد”، التي رفعها كعنوان للطوفان، وكان يختم بها الملثّم خطابه للجماهير. لكنّ هناك الكثير غير تلك الجملة، من البداية… إلى النهاية، وهناك “قطبة مخفيّة” لأنّ السنوار كان يعلم حجم ردّة الفعل الإسرائيلية الجحيميّة. فعلى ماذا راهن؟
يحيى السنوار، المدرك تماماً لأهمية صورته في التاريخ، اختار النهاية نفسها التي انتهى إليها الشيخ عز الدين القسام: شهيداً في الميدان الذي رفض مغادرته (كما بيّنت التسريبات الإعلامية في جريدتَي “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” الأسبوع الماضي)، صادقاً مع نفسه، وأميناً على المبادئ التي آمن بها. وهنا بالضبط تكمن الإشكالية معه بالنسبة لأصحاب وجهات النظر المعارضة له، وهم ليسوا بقلّة.
لقد كان بذلك امتداداً حقيقياً لأسطورة عز الدين القسام، إذ أبقى جذوة المقاومة متّقدة للأجيال المقبلة، سواء تحت راية حماس أو غيرها. بيد أنّ ذلك يفتح النقاش حول مسألة شديدة الأهمّية: هل ابتعد السنوار عن السياسة والعملية التفاوضية على نهج شيخه، فكان طوفان الأقصى عسكريّاً فقط؟ أم هناك طوفان آخر في الجغرافيا السياسية مكمّل له بقي طيّ الكتمان حتى الساعة؟
تتكثّف المعاني والرمزيّات في الصورة الأخيرة التي اختارها السنوار له، مواجهة غير متكافئة بين مسيّرة وجريح ينتظرها بهدوء وتوثّب كي يرميها بعصاه. تلك الصورة التي اجتاحت العالم كنهاية لقصّة ملحمة، أكسبت السنوار الكثير من التبجيل والتقدير. وشبّه الكثير من المسلمين عصاه بعصا نبي الله موسى التي أمره الله أن يرميها في وجه فرعون وسحرته لتظهر الحقّ وتمحق الباطل.
يرد ذكر نبي الله موسى في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، أبرزها قصّته مع الخضر عليه السلام، المذكورة في سورة الكهف، حينما أمره الله بأن يذهب إليه ويرافقه كي يتعلّم منه. فأتى الخضر بتصرّفات أنكرها موسى عليه السلام، من بينها قتل غلام بدون سبب، فبيّن له الخضر فيما بعد أنّه قتل الغلام لأنّه كان كافراً وأراد الله أن يبدّل أبويه المؤمنين بولد آخر يكون مؤمناً.
ترى من يكون الخضر المعنويّ بالنّسبة للسّنوار؟
تبيّن سيرة حياته أنّه اتّخذ الشيخ عز الدين القسام ليكون ذاك الخضر. القسّام، سليل عائلة من أعلام الطريقة القادرية المنسوبة للقطب عبد القادر الجيلاني، ولد في بلدة جبلة باللاذقية في سوريا، تخرّج من الأزهر الشريف، وحارب الاستعمار الفرنسي في سوريا حتى صدر بحقّه حكم بالإعدام، فانتقل إلى حيفا عام 1921، حاضرة فلسطين الجميلة على البحر المتوسط. كان مؤمناً بأنّ الثورة المسلّحة هي الطريق الوحيد للتخلّص من الاستعمار البريطاني ومنع قيام الدولة اليهودية. حارب الغزو العسكري والسياسي والفكري انطلاقاً من حيفا التي كانت تنتشر فيها فرق القاديانية والبهائية، عبر تأسيس العصبة القسّامية عام 1928 على شكل مجموعات سرّية لمحاربة الاستعمار البريطاني، فكان أوّل تنظيم جهادي حركيّ في تاريخ فلسطين الحديث. وكانت سمته الغالبة التركيز على العمّال والفلّاحين، لتأثّر الشيخ بالثورة العرابيّة، ولأنّ هؤلاء يشكّلون عصب المجتمع. خطب لسنوات في جامع الاستقلال بحيفا، حيث كانت صفوف المصلّين الآتين خصّيصاً للاستماع إليه تمتدّ حتى خارج حرمه.
في تشرين الأول 1935، ألقى القسام آخر خطبة له في هذا الجامع، وقال فيها: “أيّها الناس، لقد علّمتكم أمور دينكم حتى صار كلّ واحد منكم عالماً لها، وعلّمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلّغت اللهمّ فاشهد، فإلى الجهاد أيّها المسلمون”. ثمّ اختفى وراح يقود العمليات ضدّ البريطانيين الذين كانوا يلاحقونه، فحاصروه بقوّات كبيرة فيما كان مع 10 من أنصاره. لكنّه رفض الاستسلام وتواجه معهم بقتال من الصباح حتى العصر وسقط شهيداً برصاصة في جبينه، فكان استشهاده الشرارة التي أشعلت الثورة الفلسطينية الكبرى.
القبضاي والفدائيّ
ترى بماذا كان يفكّر السنوار في لحظاته الأخيرة؟
تشكّل شخصية يحيى السنوار مزيجاً من شخصية “القبضاي” التي كانت سائدة حتى العقود الأولى من القرن الماضي ضمن النظام الاجتماعي في الحواضر العربية والتركية، وشخصية الفدائي الفلسطيني الجريء التقليدية، بكوفيّته التي صارت رمزاً لقضية شعب سُلبت أرضه وحرّيته. أراد السنوار أن تكون صورته الأخيرة لحظة قسّامية بامتياز. ومن هنا تبدأ الإشكالية معه بالنسبة لمعارضيه.
إذ يظهر أنّه لا يزال حبيس تلك الحقبة الزمنية الممتدّة حتى النكبة الكبرى عام 1948. ويشترك في هذا التفكير مع السواد الأعظم من الجماهير العربية التي تربّت على خطاب متهافت، لا يزال يتردّد صداه في خطب الجمعة وعلى ألسنة السياسيين وحتى المعلّقين، خطاب يرتكز على أولويّة الجهاد المقدّس، وتحميل المسؤولية عن ضياع فلسطين للأنظمة العربية، لإصرارها على إقفال الحدود أمام أفواج المجاهدين.
تستند هذه الفكرة إلى التفوّق العدديّ، وكأنّ فتح الحدود كفيل بإزالة إسرائيل، كما فعل عشرات منسوبي الحشد الشعبي في العراق مثلاً، على الرغم من تعاقب العهود والأنظمة والتطوّر التكنولوجي المذهل الذي نشهده. حسب معارضيه، قام السنوار ورهطه بطوفانهم وقدّموا فرصة ذهبية لإسرائيل لاستكمال ما لم تتمكّن من فعله في النكبة الأولى عبر خنق الجغرافيا والديمغرافيا. ويعتبرون أنّه لم يكن يجدر بقائد يتحمّل مسؤولية شعب أن يتّخذ مثل هذا القرار المتهوّر ويرميهم في التهلكة، فالزمان تغيّر.
لكنّ التدقيق في خطط طوفان الأقصى يظهر أنّه كان أكبر وأوسع بكثير من بعده العسكري، حيث تشير التسريبات في الصحف الأميركية، المستندة إلى أرشيف حماس الذي كشفه عليه الجيش الإسرائيلي، إلى أنّ الأهداف التي كان يخطّط لها السنوار كانت كبيرة جداً وتطال العمق الإسرائيلي. علاوة على أنّ تصريحات قادة حماس، وخاصة خالد مشعل، تكشف عن توقّعهم ردّة فعل إسرائيل الجحيميّة. وبالتالي لم يكن هناك خطأ في الحسابات، ولم يكن انهيار الجيش الإسرائيلي تحت صدمة المفاجأة سبباً لذهاب العمليّة إلى مديات أوسع من المخطّط لها.
علامَ كان يراهن السّنوار؟
لا يمكن لشخص خطّط مثل هذا التخطيط الدقيق، ومارس الخداع المنظّم تجاه إسرائيل، أن يكون “أحمقَ” أو “متهوّراً” كما يصوّره معارضوه. ثمّة قطعة أساسية ناقصة في صورة عملية طوفان الأقصى. إذ إنّ السنوار كان يدرك تماماً أنّ نجاح عملية تاريخية من هذا النوع لا بدّ أن يحصّله في تسوية سياسية، بما يعني أنّ هناك طوفاناً سياسياً أو جيوسياسياً موازياً. وهذا ما يقودنا إلى السؤال: على من كان يراهن السنوار؟ على العرب دولاً وشعباً؟ أم على إثارة انتفاضة في الرأي العامّ الغربي؟ أم على إيران؟
تظهر متابعة خطاب السنوار وتصرّفاته حتّى استشهاده أنّه لم يكن يراهن على العرب وإلّا لكان بادر بجرأته المعهودة إلى وضع الأمر كلّه بين يدي العرب، فأهداهم العملية ورضي بما يقرّرونه، في الفترة التي فصلت بين الطوفان وبدء الحرب الإسرائيلية، خصوصاً بعدما تبيّن له حجم التأييد الغربي الجارف الذي حصلت عليه تل أبيب لتنفيذ مذبحة تاريخية. كما أنّه لم يكن يراهن بالتأكيد على انتفاضة في الغرب على الرغم من صياغته خطاباً موجّهاً لهم بلهجتهم السياسية، مقروناً بأنسنة عملية تسليم دفعة من الأسرى الإسرائيليين.
لم يبقَ سوى إيران. لكنّ موقفها من حماس وطوفانها ملتبس للغاية ولا يمكن الجزم إزاءه. تظهر التسريبات نفسها وجود رسائل متبادلة بين السنوار وملالي إيران حول العملية ونوعية الأهداف وتفاصيل لوجستية، دون أن تظهر الردّ الإيراني. ويبدو أنّ الاستخبارات الأميركية أبقت الوثائق المتعلّقة بهذا الأمر كي تستثمره في تسويغ ضربات إسرائيلية “عميقة” محتملة. في المقابل تشير الحملة الإعلامية المنظّمة ضدّ الدول العربية، ولا سيما دول الخليج، والتي صرفت اهتمام الناس عن متابعة تطوّرات الحرب في غزة، إلى أنّ لطوفان الأقصى أهدافاً جيوسياسية.
في حين يظهر تغيّر سلوك ملالي إيران وإعادة تصعيد الإصلاحيين في هرميّة السلطة، وحديث المرشد علي خامنئي عن “التراجع التكتيكي” أو “البطولي”، أنّها لم تكن على موجة الطوفان نفسها. حتى دخول الحزب من لبنان على خطّ الحرب، وفق تقارير إعلامية وآراء محلّلين، لم يكن قراراً إيرانياً خالصاً، بحيث بدا الأمين العام للحزب في خطابه الأخير وكأنّه يقدّم التبريرات لإيران لاضطراره إلى الردّ على اغتيال فؤاد شكر.
مع ذلك، يصعب التصديق أنّ من خطّط لعملية من هذا النوع اكتفى بالجانب العسكري، وارتضى خسارة الأرض والشعب، وبدرجة كبيرة التنظيم نفسه، خصوصاً مع النداء الذي وجّهه قائد أركان حماس محمد الضيف غداة طوفان الأقصى إلى أفرقاء وحدة الساحات من أجل الالتحام الميداني وزيادة الضغط على إسرائيل.
لا بدّ أنّ هناك طوفاناً سياسياً كان يراهن عليه السنوار… التاريخ وحده سيميط عنه اللثام.
سامر زريق- اساس