“خيانة” طعنت معركته في الظهر: قُتل في طهران قبل أن يموت في غزّة
اجتاح، أمس الأول الخميس، خبر مقتل يحيى السنوار كالصاعقة كلّ منصّات الأخبار في العالم. الحدث عاجل صادم، لكنّه، للمفارقة، غير مفاجئ. جاء بعد سلسلة اغتيالات كبرى، باتت رتيبة مستمرّة، منذ اغتيال سلفه في رئاسة المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، في طهران في 31 تموز الماضي، مروراً بضربات حيّدت وقتلت آلافاً من العناصر والقيادات الميدانية والعليا للحزب في لبنان، انتهاء باغتيال زعيمه السيّد حسن نصرالله في 27 أيلول الماضي. بدا أنّ موسم الموت صار سهلاً، يطال من لا يُطال، حتى يحيى السنوار.
مات الرجل مقاتلاً فوق سطح الأرض لا في أعماقها. أعلن أعداؤه أنّه باغتهم صدفة، وكادوا يقولون إنّه استدرجهم مختاراً زمان موته ومكانه. انتهى بطل مسلسل ابتدأت حلقاته في 7 تشرين الأول 2023. تابع خصومه ومريدوه سياق الحبكة وفصول الحكاية من دون أيّ استشراف لنهاية أخرى. وحين استعجل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الوعد بأنّه سيخوض حرباً تغيّر الشرق الأوسط، استوحى الفكرة من السنوار الذي اعتقد أنّه سيغيّر هذا العالم.
ويبقى الانقسام..
الناس منقسمة، وستبقى، في تقويم الرجل وما صنعه. يكفي تصفّح الأمزجة على منصّات التواصل الاجتماعي لاستنتاج هذا التصدّع في جدار إطلالة العامّة والنخب على الرجل في بداياته ونهاياته. قد لا يشي موت الرجل بنهاية قريبة لمأساة غزّة وما افتتحته من مآسٍ في المنطقة. هل السنوار بطل من أبطال هذا الشعب أم هو وراء نكبة فلسطينية جديدة أطاحت بقطاع غزّة حجراً وبشراً، ووراء تمدّد الكارثة صوب لبنان، وقد تعيد تركيب كلّ الشرق الأوسط؟ كلّ هذه القراءات جائزة ولن تستقرّ على خلاصة واحدة.
الحاضر يكشف عن كارثة سببها “طوفان الأقصى”. والتاريخ وحده سيحكم على حدث ما زال، في بعده الآنيّ، عصيّاً على الفهم. مات الرجل من دون أن نعرف ماذا دار في خلده حين خطّط بدأب وصمت وقاد عملية تغيِّر هذه الأيام وجهاً من وجوه الشرق الأوسط من دون أن يكون حاسماً أمر تغييرها لواقع فلسطين والفلسطينيين. لم تمهله الحياة أن يبوح بما خطّط فعلاً له، وما الذي كان ينتظره ويتوقّعه بعد تلك العملية. ومن الأسئلة التي ستبقى غامضة: أين المفاجأة في ما كان السنوار يعرفه من ردود فعل إسرائيل في حروب غزّة الماضية، وهي التي سبق أن دمّرت وأبادت على نحو همجيّ وعلى الهواء مباشرة ومن دون رفّة جفن وتحت أعين المجتمع الدولي؟ فما الذي كان يراه السنوار سيكون مختلفاً بعد “الطوفان”؟
الأرجح أنّ أسامة بن لادن كان يفكّر أيضاً بمآلات أخرى حين دبّر هجوم 11 أيلول الشهير على أبراج نيويورك عام 2001. ربّما كان يتوقّع أن يتصرّف الأعداء وفق خارطة طريق وضعها ولم يحترموا خطوطها. مات الرجل ولم نعرف ما كانت خطّته على الرغم من أنّه عاش 10 سنوات بعد الواقعة في ملاذات شبه آمنة. لم يتسنَّ للسنوار أن يعيش آمناً ليروي الحدث في حقائقه وخيالاته. أراد تشي غيفارا أن يغيّر هذا العالم، لكنّه لم يمتلك أن يجرّ المدن والناس وراءه. وحين قُتل لم يترك وراءه أسئلة وكثيراً من الدمار.
مقاتلاً حتّى النّفس الأخير
مات السنوار صدفة، كما تسرد الرواية الإسرائيلية، مقاتلاً حتى النفس الأخير. لكنّ الأرجح أنّ مقتله، الأربعاء، حصل حين أدرك أنّ حسابات ما كانت خاطئة، وأنّ “خيانة” قد طعنت معركته في الظهر، وأنّه لم يخطّط أن يكون وصحبه وغزّة في الحرب وحدهم. من يعرف الرجل، ومنهم خصوم كثر، يؤكّدون أنّ السنوار لم يكن مجنوناً مغامراً، وأنّ “طوفان الأقصى” كان جزءاً من طوفان شامل ينطلق من جبهات “المحور” جميعها،، وأنّ الأمر كان محسوباً ومهندساً ومتّفقاً عليه ليكون كذلك.
لم تتحدّث قيادات في حركة حماس من عدمٍ حين وجّه خالد مشعل وغازي حمد وموسى أبو مرزوق عتباً يرقى إلى مستوى الانتقاد والغضب إلى إيران وفصائلها في المنطقة من عدم مشاركة السنوار “طوفانه”. كان قادة الحركة على علم بشيء ما يُدبّر يكون واسعاً وشاملاً حتى لو لم يعرفوا خرائط ما يُعدّ وتفاصيله ومواعيده. فوجئ السنوار وقادة حركته من بعده بمسارعة طهران إلى إنكار “الطوفان” ونفي أيّ علاقة به إلى درجة التسريب إلى وسائل الإعلام الدولية أنّ المرشد علي خامنئي أنّب، في تشرين الثاني الماضي، رئيس المكتب السياسي للحركة الراحل إسماعيل هنيّة على تلك “الفعلة”، وأبلغه أنّ “إيران لن تقاتل بالنيابة عنكم”. كذّبت “حماس” الواقعة ولم تنفِها طهران.
في المبالغة والإنكار والنفي وبمستويات مختلفة ما يؤكّد أنّ إيران كانت تعرف، لكنّها تهيّبت الحدث وما أثاره من هستيريا غربية باكية ناحبة مندفعة لدعم إسرائيل وغضّ الطرف عن أفظع جرائمها. تُرك السنوار ومقاتلوه وشعبه وغزّة وحيدين لمصيرهم. دبّرت طهران ورشة مصاحبة متفاوتة السرعات عبر “أذرعها” مقترحة أن تكون مفتاح الربط والحلّ، والسلم والحرب، ومباشرة موسم حصاد حقول “الطوفان”. وفق مقتضيات الحصاد انتخبت إيران مسعود بزشكيان رئيساً، فتحدّث عن انفتاح مع “الأخوة” في الولايات المتحدة، وتحدّث المرشد عن “التراجع التكتيكي”، فيما السنوار يأبى أيّ تراجع.
الظاهر أنّ لعنة ما أطلقها السنوار راحت تطيح بأحجار لعبة طهران واحداً تلو الآخر. بدا أنّ مقتل زعيم الحزب يدشّن تدحرجاً لا تظهر نهاياته. ربّما استبشر السنوار بحروب الجبهات التي تباشرها إسرائيل ضدّ إيران ومحورها معوّلاً على انقلاب ما في موازين القوى حتى لو بدا أنّ الفعل صار إسرائيلياً تغطّيه عواصم الدنيا في صمت ورعاية، فيما خسرت طهران ردّ الفعل وزمام المبادرة ولم تعد تملك إلّا عرض أوراقها للبيع على وقع وعيد بليد في طهران وكارثة يعيشها لبنان من دون أن تلوح لها المخارج.
محمد قواص- اساس