الخلاف الفرنسي – الإسرائيلي يظلّل مؤتمر باريس.. وينعكس سلباً على أرض الواقع اللبناني!
ما تحاول باريس القيام به من خطوات تقدّمها على أنها دعم للبنان، لا يجد أصداء إيجابية لدى واشنطن أو تل أبيب منذ أشهر، والخلاف بينها وبين إسرائيل يزيد من حدة المشكلات وينعكس سلباً على أرض الواقع اللبناني..
إحدى المشكلات الأساسية المتأتية عن ظهور الخلاف الفرنسي – الإسرائيلي إلى العلن حول حزب الله تحديداً، تكمن في أنه لم يبق محصوراً في الأقنية المعتمدة، بعد حرص رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الكلام عنه بوضوح. فهو ليس خلافاً دبلوماسياً وسياسياً تقليدياً، بل هو جذري، في مقاربة وضع حزب الله، ما يبقي لبنان عرضة للحرب التي تضربه، وسط معسكرين متناقضين يحاولان فرض إيقاعهما عليه.
ومع بدء التحضير لعقد مؤتمر باريس، وعدا الملاحظات الداخلية الفرنسية على ما يقوم به الإليزيه من خطوات غير مدروسة في ما يخص لبنان، تصبح لهذا الخلاف أهمية مضاعفة، إذ لا تنحصر في رؤية ثنائية لمستقبل الوضع اللبناني، بعد تموضع دول إلى جانب إسرائيل بالمطلق، أو تريث دول أخرى وحذرها من استعجال باريس عقد مؤتمر لا يمكن أن تكون له فائدة في هذا الوقت الدقيق، وبين دول تحاول إقامة توازن بين سعيها إلى رعاية لبنان وعدم تدميره، وفي الوقت نفسه ضرورة انتظار ما ستفسر عنه الحرب الإسرائيلية.
ما تسعى إليه باريس من المؤتمر هو أن يكون لها دور في مستقبل ما يُرسم للبنان. ووسط خلافات في الرؤية بين الإليزيه ودوائر في الخارجية حيال الوضع اللبناني منذ بداية عهد ماكرون، يحاول الأخير إنقاذ ما يمكن إنقاذه من دور فرنسا الخارجي، بعد النكسات التي مُنيت بها في أفريقيا. وهو يخشى أن تفرز الحرب الحالية صورة أخرى للنظام اللبناني أو أي تسوية لا يكون لفرنسا فيها دور، فتخرج من لبنان في عهده، كما خرجت من مالي. ولأن فرنسا اعتادت أن تكون حاضرة أو مؤثّرة خلال الحرب وفي اتفاق الطائف وفي صياغة القرار 1559، وفي مؤتمرات باريس الاقتصادية وتمويل الجيش، فإن السعي اليوم إلى مؤتمر يُعدّ وسيلة للبقاء حاضرة في الساحة اللبنانية، ولكن من دون التبصّر جدياً في أن الاحتمالات الموضوعة اليوم لا قدرة لباريس على مجابهتها وسط الانتقادات الحادّة للدور الفرنسي، إذ إن ثمة عقبات أمام الوصول إلى نتائج ملموسة، تكمن في مواقف متحفظة على «التدخل» الفرنسي، عربياً وإسرائيلياً وأميركياً. فثمة شك في أن يكون للدول العربية اليوم الاهتمام ذاته وسط ضبابية الصورة في لبنان قبل اتضاح مصير حزب الله ونتائج الحرب وإمكانات التوصل إلى وقف النار المعلّق على الموقف الإيراني والإسرائيلي إزاء توازن الضربات بينهما. والدول العربية صاحبة المحفظة المالية عادة، تتريث منذ ما قبل انتهاء عهد العماد ميشال عون في التوافق مع الأجندة الفرنسية على سلوكها أو خياراتها الرئاسية في لبنان. وتتحفظ كذلك على مساعدات مالية من دون سقف ومن دون هدف سياسي واضح يصب في إطار إخراج لبنان من أزماته. وحصول الحرب لم يغيّر كثيراً في هذه القناعات إلا في إطار خطوات صغيرة تحفظ موطئ قدم للفاعلة منها في أي ترتيب للبنان، من المبكر الكلام عنه في وقت قريب.
ما تسعى إليه باريس من المؤتمر هو أن يكون لها دور في مستقبل ما يُرسم للبنان
والأميركيون، ومعهم بعض الأوروبيين، لم يكونوا أساساً مرتاحين لتمييز فرنسا بين جناحي حزب الله السياسي والعسكري، ورغم تنسيقهم دبلوماسياً في لبنان في مرحلة من المراحل بحثاً عن تسوية لانتخاب رئيس للجمهورية، إلا أن لديهم ملاحظات على الانحياز الفرنسي إلى جانب حزب الله عبّروا عنه مراراً، ولا سيما أن هناك دوائر أميركية ترى في ما قامت به فرنسا في عهد ماكرون محاولة لإبقاء صلة الوصل «الاقتصادية» مع إيران في حال ترتيب أي تسوية دولية معها. الأمر الذي يجعلها تحافظ على علاقاتها الجدية مع حزب الله في لبنان وتحييده أكثر من مرة. وهذا لم يمنع التنسيق في الأمم المتحدة لمبادرة لوقف النار أُخمدت في مهدها. وإسرائيل بدورها لم تشذّ عن قاعدة انتقاد فرنسا، قبل حرب غزة وبعد حرب لبنان وعلاقتها مع حزب الله، وهي أخرجت هذا الخلاف إلى العلن من دون مواربة.
كل ذلك يؤدي إلى تقاطع مصالح أطراف عدة في عدم الانغماس في التحرك مع فرنسا إزاء اي خطوات تجاه لبنان. لذا لا شيء ملموساً يمكن البناء عليه، قبل اتضاح صورة الضربة الإسرائيلية المتوقّعة على إيران وردّ الأخيرة عليها، وما يمكن أن يرتدّ ذلك على لبنان لجهة تصعيد إسرائيل حربها وتوسيع رقعة ضرباتها.
ورغم ذلك، تحاول باريس الاستفادة من تحريك موضوع اليونيفل لجمع قوى أوروبية مساندة لها في الوقوف ضد ما تقوم به إسرائيل في لبنان ولا سيما بعد تحذيراتها لليونيفل، من أجل الدفع قدماً بالمؤتمر. لكن المشكلة أن الموقف الأوروبي غير موحّد، وألمانيا خارجة عن هذا الإجماع، ولبريطانيا ملاحظاتها الحادة على أداء فرنسا ووضع حزب الله. ومشكلتها الأخرى أن عنوان وقف النار ليست لها اليد الطولى فيه، طالما أن الطرفين المعنيين، أي إسرائيل والولايات المتحدة، لم يمنحاها تكليف التفاوض حوله، كذلك فإن تغطية دعم الجيش، لا يمكن أن «تقرّش» من دون المال العربي، وهو اليوم مال حذر ومجمّد. إضافة إلى أن أي دور للجيش في تسويات يمكن أن ترسو عليها نهاية الحرب، لن يحتاج إلى تغطيات كبيرة، لأن أمن الجنوب لا يحتاج إلى فائض من العدة والعديد، في حال التوصل إلى اتفاق دولي يمكن للأطراف المعنيين الركون إليه. فوجود الجيش واليونيفل لم يوقف حرب 2006 كما لم يمنع قيام الحرب الحالية. الملاحظة اللبنانية المحلية هي أن هناك من سيستغل المؤتمر لترويج رئاسي، في تسوية من المبكر جداً الكلام عنها، في ظل رفض أميركي – إسرائيلي لأي بحث حالي في انتخابات الرئاسة.
هيام القصيفي- الاخبار