أزمة ثقة كبيرة بين الحزب وقاعدته: هل وقع ضحية صفقة أميركية إيرانية؟

قبل الاغتيال المزلزل الذي أودى بالأمين العام لـ “حزب الله” الشهيد السيد حسن نصر الله، بما يشكله في وجدان وفكر محازبيه ومؤيدين من مكانة قاربت حد “القداسة”، استبق الكثير من اللبنانيين من أنصار “حزب الله” عملية الاغتيال بتوجيههم اللوم الى إيران بأنها تركتهم من دون أن تتدخل أمام الهجمات الاسرائيلية المختلفة. وقد ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، منذ “اللارد” الايراني على إغتيال إسرائيل رئيس المكتب السياسي لـ “حماس” إسماعيل هنية في طهران، بأن هذه “البرودة” الايرانية إنما ستفتح الشهية الاسرائيلية للذهاب إلى تصعيد أكبر في المواجهة، وإلى المضي والإمعان الممنهج والمنظم في القيام بعمليات الاغتيال لكبار القادة. وما زاد من يقين أصحاب هذا الرأي اغتيال إسرائيل القائد العسكري لـ “حزب الله” فؤاد شكر في بيروت، من دون أن يكون لإيران أي رد بحجم الإستهداف.

وهذا الشك، بدأ مع تصعيد العدو الاسرائيلي ضرباته وإستهدافاته المؤلمة لـ”حزب الله” التي طالت تدريجياً قادته العسكريين ومنشآته ومخازنه العسكرية، وسط تساؤلات عن سبب عدم استخدام الحزب لمنظومة الدفاع الجوي، التي كانت كفيلة بالحد من فاعلية سلاح الجو الاسرائيلي، وكذلك إقتصار رده على صواريخ الكاتيوشا، دون سواها من الصواريخ المتطورة، بحيث كان التبرير الذي يسمعونه، بأن إيران تضغط على الحزب لعدم استخدام السلاح النوعي، بغية عدم تقديم ذريعة لبنيامين نتنياهو للقيام بحرب شاملة، لا تريدها إيران (التي تفاوض الادارة الأميركية في مسقط)، ما ولّد قناعة لدى جمهور الحزب وغالبية اللبنانيين، بأن إيران تزج بـ “حماس” و”حزب الله” في حربهما ضد إسرائيل، لتعزز شروطها التفاوضية.

ولكن بعد إغتيال “أيقونة” محور المقاومة، تحوّل اللوم إلى إتهام ونقمة بصورة مباشرة على إيران في تقاعسها، وترك الحزب و”السيد” وحيدين في معركتهما، خصوصاً بعد الضربات المتتالية، التي أثبتت التفوق الأمني والمخابراتي للعدو الصهيوني، بكل ما يملك من تقنيات تجسسية والقدرة على إختراق “تحصينات” الحزب القيادية واللوجيستية، من دون أن تُقدِم أو تقدّم ما يعزز مناعة الحزب وقياداته وبنيته العسكرية وتحصينها، لتشكيل خط دفاع عن ذراعها الأقوى في المنطقة والذي أمّن لها جسر وصول الى المتوسط.

وتكمن أهمية “حزب الله” في المكانة الخاصة والكاريزما التي يتمتع بها أمينه العام حسن نصر الله ضمن محور المقاومة، والتي منحته “مساحة تأثير خاصة” في كل الجبهات، مثل سوريا واليمن والعراق. كما أصبحت خبرة “حزب الله” القتالية والعسكرية وإدارته الصراع مع إسرائيل بشكل ما مرجعاً لأطراف محور المقاومة، ومركز ارتكاز بالنسبة الى إيران. الا أنه حسب صحيفة “يديعوت أحرونوت” الاسرائيلية (عدد 19 أيلول 2024)، فإن إسرائيل “انتقلت إلى مرحلة جديدة في حربها في الشمال، تهدف إلى اقتلاع منظمة حزب الله والقضاء عليها”، لذلك يخوض الحزب بدوره معركة وجود ضد إسرائيل، وفق تقدير الصحيفة.

ويتضح أن إسرائيل بقيادة نتنياهو، من خلال عملياتها المكثفة الأخيرة، لم تعد تكترث لأي نوع من الخطوط الحمر وقواعد الاشتباك والردع المرسومة ضمنياً، وهو ما يفتح الباب أمام مستوى جديد من المواجهة، تزيد معها الأسئلة عن موقف إيران. في المقابل، راهنت طهران على سياسة الغموض وتأجيل الرد كورقة ضغط على نتنياهو للموافقة على وقف إطلاق النار في غزة، الذي كان يمثل بشكل ما مخرجاً مناسباً لها من أعباء الرد، لكن رئيس الوزراء الاسرائيلي رفض كل المبادرات، ومضى قدماً في جرائمه في غزة ولبنان، وكثف عملياته ضد “حزب الله”.

إن إستراتيجية الصمت الايراني والغموض حول الرد كعامل تأثير نفسي وعسكري لم يردع إسرائيل ولم يخفف اندفاعاتها لمحاولة تقويض “حزب الله”، ونفذت تفجيرات “البايجر” التي أصيب فيها السفير الايراني في بيروت، واغتالت قبل ذلك فؤاد شكر، ثم إبراهيم عقيل وقادة آخرين كباراً في “قوة الرضوان” الوحدة العسكرية الأبرز في “حزب الله”. وهذه الاستراتيجية القائمة على الوعيد وتأجيل “الانتقام” وانتظار تراجع إسرائيل يراها بعض التحليلات مجرد ذريعة وكسباً للوقت، وهو ما ترك حرية المبادرة لدى نتنياهو الذي زاد في وتيرة التصعيد مستخفاً بالرد الايراني، ومشككاً فيه، حتى بلغ به الأمر إلى إغتيال الأمين العام للحزب، من دون أن يكترث إلى ما يمكن أن ينتج عن ذلك من ردود انتقامية باللجوء الى الأسلحة النوعية التي لا تتحمل إسرائيل نتائجها التدميرية.

وما زاد من “النقمة” المتنامية في أوساط “حزب الله”، في الوقت الذي لا يزال فيه تحت تأثير الصدمة، مع إستمرار القصف الكثيف والمتواصل، تعاطي إيران (التي أعلنت الحداد الرسمي 5 أيام) “الديبلوماسي” الحذر مع الاغتيال، من دون الإرتقاء الى حجمه الجلل. فقد إكتفى المرشد الأعلى الايراني آية الله علي خامنئي بالتعهد أن “دم نصرالله لن يذهب هدراً”، فيما قال مساعد الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف: “إن رد الفعل الايراني “سيكون في الوقت المناسب، ووفقاً لاختيار إيران ضد جرائم الكيان الصهيوني، وستتخذ القرارات بالتأكيد على أعلى مستوى”. أما وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي فقال: “إن اغتيال إسرائيل لنائب قائد الحرس الثوري في بيروت جريمة نكراء لن تمر من دون رد”، (من دون أي إشارة إلى رد محتمل على اغتيال نصر الله)! كذلك، نقلت وسائل إعلام رسمية إيرانية عن رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف قوله: “إن الفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران ستواصل مواجهة إسرائيل بمساعدة طهران عقب اغتيال نصر الله”. وبرز ما أعلنته لجنة الأمن القومي الايراني من “أننا سنرد في الوقت المناسب ووفقاً للظروف”، ما اعتُبر مؤشراً على أن طهران يصعب أن تخرج عن دائرة التراجع التكتيكي. وفي السياق نفسه، نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مصادر في الحرس الثوري “أن الأولوية الفورية لإيران هي مساعدة حزب الله على استعادة عافيته، وتسمية خليفة للسيد نصر الله، وتشكيل هيكل قيادي جديد وإعادة بناء شبكة اتصالات آمنة في حزب الله وبعد ذلك يستطيع الحزب أن يخطط لرده على إسرائيل”.

إيران التي تتحرك بحذر منذ اندلاع الحرب في غزة، وتحاول إظهار قوتها من دون إثارة رد فعل من الولايات المتحدة، من المؤكد أنها لن تخرج عن ضوابط المواجهة المنضبطة مع اسرائيل تفادياً لصِدام غير متكافئ مع الولايات المتحدة، لذلك فقد تتبنى نهجاً مباشراً في قيادة قوات “حزب الله” القتالية، وهو مسار غير فاعل في أفضل الأحوال نظراً الى غياب القيادة العسكرية المتمركزة في لبنان حالياً، أو بدلاً من ذلك، يمكن أن تسهل إيران إطلاق صواريخ “حزب الله” الموجهة بدقة قبل أن تدمرها إسرائيل، أو توجّه وكلاء مثل الميليشيات الشيعية المتمركزة في العراق والحوثيين في اليمن للاشتباك عسكرياً مع إسرائيل. لكن الأوساط المقربة من “حزب الله”، المصابة بالإحباط وخيبة الأمل من الموقف الايراني، تخشى إستبدال إيران الرد الإنتقامي، بالحل الديبلوماسي، (بحجة الحفاظ على ما تبقى من قدرات الحزب، لمنع تكبده مزيداً من الخسائر). وهذا ما يستلزم قبول المبادرة الديبلوماسية الأميركية – الفرنسية، وتوجيه “حزب الله” للانسحاب عسكرياً إلى شمال نهر الليطاني، كما يعني هذا التراجع الفصل بين جبهتي الحرب في لبنان وغزة، وذلك بهدف توفير الوقت والمساحة للحرس الثوري، لإعادة بناء ترسانة “حزب الله” وإعادة هيكلة قيادته العسكرية. ولا تخفي تلك الأوساط خشيتها من أن يؤدي هذا السيناريو اذا ما مضت فيه إيران إلى التسبب في أزمة ثقة كبيرة بين الحزب وقاعدته، بعدما دفع أثماناً باهظة، كان آخرها خسارة “سيد المقاومة”، لتمسكه بوحدة الجبهتين، وبالتالي الرفض القاطع للتراجع الى شمال الليطاني، خصوصاً وأن التراجع يحمل مخاطر أيضاً، بما في ذلك التعرض لحملة عسكرية إسرائيلية مستمرة تشمل إضعاف صواريخ “حزب الله” الموجهة بدقة أو القضاء عليها.

يسود إعتقاد في صفوف “حزب الله” وأوساطه، أن الحزب وقع ضحية صفقة أميركية – إيرانية، في ظل سياسة “المرونة الاستراتيجية” التي تمارسها طهران لرفع العقوبات عنها، من خلال التوصل الى اتفاق بشأن ملفها النووي.

محمد سامي عيتاني- لبنان الكبير

مقالات ذات صلة