لا يُخطئ ولا يُهزم ولا ينتهي: مات السيد عاش السيد ولكن…!
لا يختلف اثنان على أن لبنان – المقاومة الاسلامية، لن يكون محوراً اقليمياً مهاباً بعد غياب حسن نصر الله كما كان قبله، وأن “حزب الله” قد لا يتمكن سريعاً من استعادة هيبته وسطوته حتى في عهد هاشم صفي الدين القريب من سلفه من حيث القرابة والعقيدة والمسار والقرب من أئمة ايران.
وليست المشكلة في سجل الخليفة أو في مواصفاته وقدراته، بل المشكلة في بيئة عايشت حسن نصر الله على مدى ثلاثة عقود وتربت على سحره وهيبته واطلالاته وتحدياته سواء تلك التي أخفق فيها أو انتصر، ووصلت معه الى موقع محلي واقليمي ودولي لم تصل اليه في أكثر محطاتها عزة وضياء، وتعاملت معه على أنه صاحب “تكليف سماوي” لا يُخطئ ولا يُهزم ولا ينتهي.
وليس مستغرباً ما قاله مسؤول شيعي في كواليسه بعد التأكد من وفاة زعيمه: “لن تكون الحياة بعده كما اعتدنا أن تكون.. لن تكون الحرب من دونه جميلة ولن يكون السلام من دونه جميلاً”.
ويعترف الكثير من المراقبين داخل البيئة الحاضنة، بأن الخليفة، اذا قدر له أن ينجو من الاستهدافات الاسرائيلية، فسيجد صعوبة في استيعاب بيئته والتي تكاد تكون أكثر شدة من احتواء الخسائر البشرية والمعنوية والمادية التي أصابتها بعد الثامن من أكتوبر، وأكثر تعقيداً من قرارات الحرب التي يمكن أن يتبناها أو قرارات السلم التي يمكن أن يمشي بها في ما يعرف بـ “اليوم التالي”. ويضيف هؤلاء أن ثمة شيئاً قد لا يحظى به الزعيم الجديد للحزب، وهو القدرة على اقناع رجاله بالذهاب الى أي حرب يختارها له من دون اعتراض أو تململ، وأي مهمة يكلفه اياها من دون أي خوف أو تردد تماماً كما كان يفعل نصر الله مع قادته ورجاله، مؤكدين أن عنصر القيادة في هذا الشرق لا يقوم دائماً على المبادئ بل على الخامات القيادية التي يصعب تكرارها أو استكمال مهامها، تماماً كما حدث على سبيل المثال لا الحصر، بعد جمال عبد الناصر عربياً وياسر عرفات فلسطينياً، وأنطون سعادة وكميل شمعون وبشير الجميل ورياض الصلح ورفيق الحريري لبنانياً.
وما يعزز هذا الانطباع ظهور مكاشفات في الضاحية الجنوبية تؤكد أن الشيعة عموماً كانوا يعرفون أن أبناءهم سقطوا في حروب اقليمية غير مقتنعين بها، لكنهم خاضوها كرمى حسن نصر الله، وأنهم لن يخوضوا أي حروب أخرى لا كرمى خليفته ولا كرمى الامام خامنئي نفسه، مؤكدين أن الأخير، ولو في كواليسهم، ترك السيد وحيداً يوم احتاج الى دعمه، لا بل ذهبوا بعيداً الى حد اتهامه بالمساومة على رأسه.
وانطلاقاً من هذا الواقع، ينقسم شيعة “حزب الله” الى فئة تعتبر نفسها في خانة اليتامى، وفئة تعتبر أن مهمتها انتهت وأنها لا تنتمي الى أي مرجعية أخرى، وفئة تعتبر أن ولاءها المطلق والأوحد هو لولي الفقيه دون سواه.
ومن لبنان الى ما هو أبعد منه، يبدو الشرق الأوسط، بعد التفوق العسكري الأميركي على محور الممانعة، مقبلاً على خريطة طريق جديدة يتردد في أكثر من مكان، أنها باتت أكثر قابلية للتطبيق بعد ازاحة نصر الله، وأنها ستضع حداً للنزاع العربي – الاسرائيلي من خلال تسوية تقوم على معادلة الأمن للدولة الاسرائيلية والكيان الآمن لدولة فلسطينية مجردة من السلاح، وذلك بعدما تمكنت إسرائيل من سحب حركة “حماس” من دائرة الخيارات العسكرية الايرانية المباشرة، وتمكنت من تفكيك الهيكلية القيادية في “حزب الله” من القاعدة الى القمة، ومن حشد كتلة أميركية – غربية في مواجهة ايران التي وجدت نفسها في موقعٍ نقلها من دور العراب الذي يوزع المهام على أذرعه الى دور المتهم الذي يوزع الرؤوس على جلاديه.
وأكثر من ذلك، لا يبدو العرب في موقع من يريد انتشال “حماس” و”حزب الله” مما هما فيه، ولا منح ايران متنفساً يمكنها من استعادة المبادرتين العسكرية والسياسية، ولا في التغاضي عن أي اجراء مباشر أو غير مباشر يمكن أن يحجم خطر الحوثيين في اليمن، والحركات الاسلامية الأصولية في العراق، اضافة الى خطر الاخوان المسلمين في أكثر من مكان عربي أو أي اجراء يمكن أن يسحب القرار الفلسطيني من يد الفرس الى حضن العرب.
والواقع، أن معظم الدوائر العسكرية والسياسية في العالمين الاقليمي والدولي، بات يعلم أن ايران البراغماتية وليس الايديولوجية وجدت نفسها بعد “طوفان الأقصى” وما تبعها، في زاوية صعبة لا بل خانقة تخيّرها بين أمرين حاسمين، اما الدخول في تسويات غير متكافئة مع العرب والغرب، واما الذهاب الى حرب غير متكافئة، بعدما فقدت خيار الاعتماد على حلفائها الذين سقطوا في غزة، وتهشموا في لبنان وانسحبوا في دمشق، وانقسموا وتشعبوا في العراق وحاولوا عبثاً في اليمن.
وما يعزز هذه الفرضية، انطباع شبه عارم في الأوساط الشيعية اللبنانية، بأن اسرائيل لم تتمكن من النيل من نصر الله وقادته الواحد بعد الآخر، انطلاقاً من تفوق تكنولوجي وحسب، بل من تعاون ثمين تلقته من جهة لصيقة تعرف هيكلية “حزب الله” بالأسماء والأدوار والأسرار والمواقع.
ويقول مصدر قريب من الضاحية الجنوبية: ان نصر الله كان مطمئناً على مدى ثلاثين عاماً الى حرفية جهازه الأمني والاستخباري، لكنه لم يتنبه الى حركة البيع والشراء التي كانت تطل برأسها في عالم السياسة فتحافظ على رأس هنا وتقطع رأساً هناك، مشيراً الى أن الرجل لم يدرك أن مقتل حليفه الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي ووصول رئيس معتدل الى السلطة، كانا مقدمة لتحول ايراني دراماتيكي يأخذ في طريقه كل ما يمكن اعاقة عودتها الى الحظيرة الدولية خالية من العقوبات والحصارات والهواجس العسكرية التي تلاحق مشروعها النووي وترساناتها الصاروخية خصوصاً بعد الغارة التي شنتها اسرائيل على مصنع لانتاج الصواريخ الباليستية في مدينة أصفهان، والغارة التي استهدفت مصنعاً آخر في منطقة حيصاف السورية.
ويضيف: ان نصر الله كان مؤمناً الى حد الذوبان بمشروع ولاية الفقيه، وكان مستعداً لبذل أي شيء والمخاطرة بأي شيء من أجل بناء وحماية الهلال الممتد من طهران الى البحر المتوسط ونشر الثورة الاسلامية في أي مكان تطاله يده، معتقداً أن الايرانيين يملكون الايمان نفسه أو الحماسة نفسها، من دون أن يتنبه الى حقيقة تاريخية لا تقبل أي جدل، وهي الحقيقة التي تقوم على حتمية “جز العشب” عندما يعلو أكثر من المطلوب أو المسموح.
وليس سراً في هذا المجال أن الرجل تقدم على الامام خامنئي في كثير من المحطات وبات في نظر المراقبين وصانعي القرار، الدعامة التي تحمي مصالح ايران من جهة، وتدير أذرعها العسكرية من جهة ثانية بدءاً من غزة، مروراً بسوريا والعراق واليمن والبحرين والمغرب، وصولاً الى البوسنة وكوسوفو في قلب أوروبا، اضافة الى امتلاكه ترسانة عسكرية لم تملكها أي ميليشيا في العالم ومجموعة كبيرة من المقاتلين والقادة المحترفين والمتمرسين، ودويلة لها عقيدتها ونظامها وعملتها ومدراسها ومشافيها وجيشها.
وسط هذا المشهد القاتم والمعقد، لا تبدو ولاية الزعيم الشيعي الجديد في لبنان، ولاية سلسة أو مطواعة، فهو سيجد نفسه أمام ثلاثة مخاطر، الأول الخطر المحدق به من صواريخ اسرائيل، وخطر الخروق داخل بيئته الشيعية الجريحة والمهجرة والغاضبة، وخطر التسويات الاقليمية التي يمكن أن تأتي على حسابه، اضافة الى خطر النقمة الداخلية التي تتهم محوره باتباع سياسة الانتحارات الجماعية في سبيل أحلام عبثية.
انها في العلن الصوت الذي يردد مات السيد عاش السيد، ولكنها في الكواليس قد تكون مات السيد عاش الأئمة في طهران.
انطوني جعجع- لبنان الكبير