مشكلة كبيرة بين المسيحيين و”الحزب” الذي يحوّل لبنان إلى غزة: لكم لبنانكم، ولنا لبناننا!

كلمة حق تُقال ان المسيحيين في لبنان لا يريدون أن يعيشوا الحرب بتاتاً، وخصوصاً أنهم عانوا الأمرين منذ عام 1975 حتى اليوم جراء حروب الآخرين على أرض لبنان، بدءاً بالفصائل الفلسطينية ثم الاحتلال السوري وصولاً إلى “حزب الله” ومشروعه الايراني.

لكن على الرغم من مخاوفهم من توسّع الحرب التي بدأها “الحزب” في 8 تشرين الأول 2023 اسناداً لغزة، وقع المحظور، وها هي الحرب تتمدّد على كل المساحة الجغرافية للبنان ليتكرّر مشهد حرب تموز 2006.

ويبدو أن المناطق ذات الأكثرية المسيحيّة ليست كلّها في منأى عن القصف الاسرائيلي، حتماً ليس استهدافاً للمسيحيين الذين ليسوا مسلّحين ولا علاقة لهم بما يُسمّى مقاومة، إنما استهداف لمواقع “الحزب” التي أصبحت أكثر انتشاراً في بعض المناطق والأقضية المأهولة من المسيحيين ولا سيما أعالي كسروان وجبيل بالمقارنة مع حرب تموز 2006، وهذا ما يُبرر استهداف الطائرات الحربية الاسرائيليّة لمناطق مثل فاريا وحراجل والمعيصرة وقرطبا والعاقورة وغيرها.

لا شك في أن المسيحيين يعيشون على أعصابهم كمعظم اللبنانيين، لأن تجربة حرب تموز 2006، أثّرت عليهم كثيراً عندما استهدفت اسرائيل مرافق الدولة اللبنانية والجسور، واكتظت المناطق المسيحية والسنيّة والدرزية بالنازحين من الجنوب والبقاع وبعلبك والضاحية الجنوبية، وهذا المشهد يتكرر اليوم، بحيث لم تعد هناك شقة سكنيّة فارغة في كل المناطق الأكثر أماناً والبعيدة عن المواقع العسكرية لـ”الحزب” في لبنان.

واللافت أن الخلاف بين المسيحيين من جهة و”الحزب” من جهة أخرى، تفاقم في الفترة الأخيرة التي سبقت اندلاع الحرب، ولا سيما حول ملف انتخاب رئيس للجمهورية والتفرّد بقرار السلم والحرب وإبقاء لبنان ساحة لمغامرات محور الممانعة.

يبدو أن المسيحيين تحوّلوا رأس حربة ضد مشروع “الحزب”، إذ يشعرون أنه مشروع غلبة، إن كان بإصراره على الاحتفاظ بسلاحه ومصادرة القرار الاستراتيجي للدولة أو بتعطيل الاستحقاقات الدستورية وقضم المواقع المسيحيّة في الدولة والامتناع عن تطبيق الدستور. مع ذلك، لا يزال المسيحيون مؤمنين بالشراكة الوطنية ولم يفقدوا الأمل منها، بدليل أن كثراً منهم استقبلوا إخوانهم من النازحين الشيعة في بيوتهم، وفتحوا لهم مدارسهم، وبادر بعض منظّماتهم الإنسانية والكنسيّة إلى تأمين حاجاتهم من مواد غذائية وأدوية وفرش وحاجات أولية منزلية، وكذلك فعلت مستشفياتهم الرائدة، فاستقبلت الجرحى وقدّمت لهم العلاج اللازم.

لكن الكنيسة المارونيّة والقوى السياسية الأساسية الأكثر تمثيلاً للمسيحيين مثل “القوات اللبنانية” و”الكتائب” وكثير من الشخصيات المستقلة السيادية لا تزال ترفض الحرب إنطلاقاً من مبدأ الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله بربط جبهة لبنان بجبهة غزة، ولا ترى فيه أي عقلانية ومنطق، وتعتبر أنه يفتقد للقراءة السياسية الصحيحة والسليمة، وقد أظهرت وقائع الحرب العسكرية أنّها غير متكافئة منذ اللحظة الأولى، علماً أن نظرية وحدة الساحات سقطت، وإيران عاجزة عن مساعدته بالدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل في ظلّ خشيتها من مواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية. وقد قدّمّت أكثر من فرصة أميركية لـ”الحزب” من أجل الخروج من معركة خاسرة، ولكنه لم يتجاوب مع الوساطات وأصر على منطقه القائل بالاستمرار في الحرب طالما حرب إسرائيل على غزة مستمرة. وتعتبر القوى السياسية المسيحية أنه إذا كان نصر الله ينتظر تراجع رئيس حكومة اسرائيل بنيامين نتنياهو فسينتظر طويلاً لأن الأخير هدفه الاستمرار في الحرب، وبالتالي كان عليه أن يلتقط الفرص التي قدّمت إليه وفوّتها فرصة تلو الأخرى، وكل فرصة يفوّتها تزيد خسائره.

وتتساءل القوى السياسية المسيحية: ماذا ينتظر نصر الله لإعلان الالتزام بالقرار 1701 الذي لولا إعلانه الالتزام به في العام 2006 لما توقفت الحرب؟ وبماذا يختلف وضعه اليوم عن وضعه سابقاً؟ لا بل انّ وضعه الحالي أسوأ من السابق.

هذه الهواجس والتساؤلات السياسية المسيحية تعبّر جيداً عن الوجدان المسيحي، بل اللبناني أجمع، ويرى المسيحيون أن “الحزب” ينتحر ويحوّل لبنان إلى غزة، وهم يرفضون اتجاه التخلي الكامل والشامل عن دور الدولة، ولو الشكلي، والتسليم بالمواجهة بين إسرائيل و”الحزب” على أرض لبنان.

يُدرك المسيحيون، وسط نار الحرب، أن الوقت ليس للتحدي والمحاسبة، لكن في قلوبهم “حسرة” كيف حوّلت الممانعة الزمن الجميل في لبنان، بعدما أحكمت سيطرتها على مفاصله، إلى الزمن الرديء، وباعت الناس أوهام الكرامة والعنفوان وهي تعيش في الذل والهوان، علماً أن هذه الشعارات ليست سوى بضاعة فاسدة وفاقدة الصلاحية.

إن كرامة الإنسان لا تتأمّن بالشعارات والخطابات، إنما من خلال نمط عيش واستقرار وبحبوحة وحرية وحياة هانئة وكريمة، وهذا ما كان عليه لبنان قبل الحرب في العام 1975، وعندما تسلّلت الممانعة إلى ربوعه تحوّل إلى مساحة جغرافية بلا حدود ودولة غير فعلية بلا دستور، إنما مساحة فوضى وحروب ودمار وكوارث.

في الحقيقة، المشكلة كبيرة بين المسيحيين و”الحزب”، وإذا كان قسم كبير من الشيعة يصدّق شعارات “الحزب” وأوهامه، فإن أكثرية الرأي العام المسيحي لا تُصدِّق روايات “الحزب” عن كرامة الموت جوعاً وتهجيراً، ولا تصدّق الخطابات التي لا تطعم خبزاً ولا تؤمِّن مأوى ولا تحقّق انتصاراً، وتشكِّك بهذه الرواية وتريد العيش وسط الاستقرار لا الفوضى، فيما يقوم “الحزب” بتزوير التاريخ ويتحدّث عن “أمجاد” الحاضر الذي يتحدّث عن نفسه: حروب وموت ودمار وتهجير وكوارث وفقر.

قد يكون اليوم لا صوت يعلو فوق صوت المعركة وما ستؤدي إليه، لأن القرار أصبح في يد اسرائيل ونتنياهو، بعدما سهّل له نصر الله الحصول على ما يريده وهو توسيع الحرب، لكن “الشمس شارقة والناس قاشعة” والفارق كبير بين لبنان الاستقلال ولبنان الممانعة.

ما يجري اليوم ليس اغتيالاً للبنان الذي آمن به المسيحيون، لأنهم كانوا رواد صناعة لبنان الحضارة والحداثة، إنما الدروز أيضاً كانوا شركاء أصيلين في فترتين ذهبيّتين للبنان إبان المتصرفية والاستقلال، والسُنّة ساهموا إلى جانب المسيحيين والشيعة والدروز في بناء دولة فريدة في محيطها والتي حاول الشهيد رفيق الحريري إعادة إشعاعها فاغتالوه، والشيعة المعارضون لـ”الحزب” رأوا بلبنان وطناً ليس كسائر الأوطان واندمجوا في رحابه إلى جانب شركائهم “من دون أن يخترعوا لأنفسهم أي مشروع خاص يميّزهم عن غيرهم”.

فمشروع الممانعة لا يشبه لبنان في تاريخه ولا في تطلُّع شعبه إلى المستقبل بعد التخلُّص من حاضره الكارثي والمأساويّ، ولم يحمل هذا المشروع معه سوى الانقسام والشرذمة والحروب والموت والانهيار والتفكُّك والتخلُّف والهجرة، وما نعيشه في هذه الأيام ليس سوى دليل واضح على فشل مشروع الممانعة ولبنان الذي تريده.

فلا حياة لمشاريع الموت، ومهما راكمت هذه المشاريع من قوة حديدية فإن مصيرها الموت المحتّم، لأن المسيحيين، وغير المسيحيين، يريدون الحياة، ولبنان الماضي هو مشروع حياة، ولبنان الحاضر هو مشروع موت، ولبنان المستقبل لن يكون إلا مشروع حياة.

أما بالنسبة الى المسيحيين وتأييدهم للقضية الفلسطينية، فقد بات هناك إجماع مسيحي من “القوات اللبنانية” وصولاً إلى “التيار الوطني الحر”، على أن التضامن مع فلسطين مفتوح سياسيّاً ودوليّاً وإنسانيّاً، لا دخول لبنان في جبهة إسناد لم تُفِد الفلسطينيين بشيء، بل أدت إلى تدمير لبنان، كما يفعل “الحزب”! علماً أن هناك دولة معنية بالصراع مثلنا أو أكثر نأت بنفسها عنه مثل العراق ومصر والأردن وسوريا وحتى إيران حالياً!

لسان حال المسيحيين اليوم هو الأولوية لأمن لبنان واقتصاده واستقراره، لا تدميره، وليس من مصلحة الفلسطينيين أن يدمّر لبنان، وإقحام لبنان في الحرب يعني تدميره، وأولوية لبنان الساحة اللبنانية لا وحدة الساحات، ولا زلنا نعاني في البلد من الحروب والانهيار والفشل والفوضى و”يلي فينا مكفينا”، وقرار الحرب والسلم يجب أن يكون داخل الدولة حصراً!

المسيحيون يريدون لبنان السلام، ولا يعني السلام مع إسرائيل، إنما لبنان الاستقرار والازدهار والدولة والقضاء والقانون، وليس لبنان الحرب والفوضى والاغتيال والفساد والدويلة.

فالخلاف بين اللبنانيّين كبير وجوهريّ وعميق وهو بين مفهومين: لبنان السلام ولبنان الحرب، ويجسِّد الشيخ قبلان أفضل صورة للبنان اليوم: لبنان الحرب والساحة والموت والتخوين والقتل والفساد. وتجسِّد المعارضة النيابيّة السياديّة أفضل صورة للبنان الذي تناضل من أجل تحقيقه: لبنان السلام والحياة والبحبوحة والمحبة والتألُّق والثقافة والاستقرار، وصدق من قال: لكم لبنانكم، ولنا لبناننا.

جورج حايك- لبنان الكبير

مقالات ذات صلة