قصّة تجسّس مرعبة للغاية وغير محتملة: عميل في الموساد عاش في لبنان 10 سنوات…يكشف تفاصيل“البيجر”

يشكّل انفجار أجهزة البيجر واللاسلكي في لبنان قصّة تجسّس مرعبة للغاية وغير محتملة بحيث لا يجرؤ أيّ فيلم على عرضها على الشاشة، غير أنّ الصور المروّعة للرجال والنساء الذين شوّهوا خلال حياتهم اليومية عندما انفجرت آلاف أجهزة الاتصال بشكل تلقائي يوم الثلاثاء الماضي حقيقية للغاية. ولا شكّ بالتالي، وفقاً لصحيفة التلغراف البريطانية، أنّ هذه العملية التي تتّسم بالتعقيد والإبداع، تحمل كلّ السمات المميّزة لأجهزة التجسّس الإسرائيلية، وخاصة الموساد المخيف ـ جهاز الاستخبارات الخارجية في البلاد.

عمل متخفّياً في لبنان

تنقل الصحيفة عن أفنر أفراهام، الذي خدم في الموساد لمدّة 28 عاماً، عشرة منها في الخارج حيث عمل متخفّياً في لبنان، وهو يعمل الآن مستشاراً في أفلام هوليوودية عن تاريخ الموساد: “إنّ هذه العملية رائعة للغاية، ومبدعة للغاية، وخارجة عن المألوف، بحيث لا يمكن إلا لوكالة المخابرات المركزية الأميركية أو جهاز الاستخبارات البريطاني أو الموساد أن يقوموا بمثلها. يتطلّب الأمر حكومة والعديد من العلاقات والمال للقيام بشيء مجنون للغاية كهذا”.

تمّ تجنيد أفراهام في الموساد بعد خدمته العسكرية النظامية. ويقول: “إنّها حياة مرموقة بالطبع. ولكن لا يمكنك مشاركتها، حتى مع والديك. إنّها ليست حياة جيمس بوند، إنّها حياة رمادية للغاية”. ويعتبر أنّ الموساد يتمتّع بقوّتين رئيسيّتين، مقارنة بوكالات التجسّس الوطنية الأخرى:

– الأولى: هي أنّ اليهود يأتون من جميع أنحاء العالم. لقد نشأوا في أماكن مختلفة، ويبدون مختلفين، ويمكنهم التحدّث بلغات مختلفة. عائلتي جاءت من العراق، وأستطيع التحدّث بالعربية، ونحن نبدو عرباً عراقيين، لذلك عملت مع الموساد متخفّياً في لبنان.

– الثانية: أنّ الأجهزة الأمنيّة للموساد تمّ صقلها أيضاً من خلال سنوات من الصراع. فالسبب الآخر الذي يجعلنا جيّدين للغاية هو أنّنا اضطررنا إلى القتال كلّ هذه السنوات من أجل العيش في بلدنا. ومثلها كمثل جهاز الاستخبارات السوفيتية (كي جي بي) ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والوكالات البريطانية في أوج عطائها خلال الحرب الباردة، اكتسبت القوات الإسرائيلية على مدى عقود من الزمان سمعة طيبة في الإبداع، حيث وجدت طرقاً غير متوقّعة للوصول إلى أهدافها، التي غالباً ما تكون شديدة السرّية وواثقة من الناحية الأمنيّة. ولكنّ الهجمات الأخيرة تجاوزت حتى أعلى التقديرات لقدراتها.

كلّ شيء يبدأ بتحديد فرصة

يقول الضابط السابق في الوحدة 81، قسم الأسلحة الإسرائيلي السرّي: “يبدأ كلّ شيء بتحديد فرصة. في هذه الحالة، طلب الحزب شراء أجهزة البيجر لأنّه أراد تجنّب استخدام الهواتف المحمولة، التي يمكن اختراقها وتعقّبها. لكنّ جهاز البيجر هو جهاز يمكننا التحكّم فيه بسهولة، فأنت تعرف في الأساس كيف تدخل إلى الشبكة وتبثّ ما تريد بثّه. لذا عندما رأينا طلب أجهزة البيجر، قال المسؤولون: “حسناً، لدينا الآن فرصة لوضع شيء نريده داخل الأجهزة هذه”.

يضيف: “من الناحية التشغيلية، تحتاج إلى التفكير في كيفية التحكّم في العملية برمّتها. ونحن نعلم أنّ أجهزة البيجر هذه خرجت من مصنع في المجر، لكن ربّما تكون قد غادرت المصنع في حالتها الأصلية. وبعد ذلك ربّما قامت وحدة الجمارك بتحويلها، وهو ما أدّى إلى تأخير لبضعة أيام بسبب مشاكل الجمارك، ثمّ قام فريق العمليات بإدخال الفخاخ المتفجّرة. قد تكون الشركة الأوروبية بريئة”.

كيف تقوم بتفخيخ الأجهزة؟

يوضح ضابط الموساد السابق: “هناك طريقتان. في الأساس، تحصل على المخطّطات والرسوم البيانية للجهاز التي يمكن الحصول عليها بسهولة، ويمكنك شراء عدد قليل منها في السوق المفتوحة. ثمّ تكون لديك بضعة أسابيع لمعرفة كيفية فتح أحدها، وكيفية تعديله وكيفية إغلاقه.” وكان استخدام أجهزة البيجر سيستغرق شهوراً من التخطيط لإدخال المتفجّرات في كلّ جهاز Shutterstock.

يرفض الضابط السابق في الوحدة 81 نظرية مفادها أنّ أجهزة البيجر ربّما انفجرت نتيجة للاختراق عن بعد من قبل عملاء الاستخبارات الإسرائيلية، وهو ما تسبّب في ارتفاع درجة حرارة بطّاريّاتها. ويقول بدلاً من ذلك: تمّ إدخال مادّة متفجّرة في كلّ جهاز.

يضيف: “لا أعتقد أنّ البطارية كانت معدّة للسخونة الزائدة والانفجار، كما قيل. من الصعب على الكلاب البوليسية اكتشاف PETN [pentaerythritol tetranitrate] المتفجّرة، التي يبدو أنّها استخدمت، على وجه التحديد. كما كانت هناك متطلّبات أخرى: كان من المقرّر تفجير المتفجّرات مرّة واحدة فقط، في الوقت الذي صدر فيه الأمر، وليس قبل ذلك، فقط عند الأمر”.

في مثل هذه السيناريوهات، كما يقول الضابط السابق، إذا ثبت أنّ من الصعب للغاية الوصول إلى “الجهاز الأصلي” المقرّر تسليمه إلى الهدف المقصود للاغتيال، “فما عليك سوى نسخه، وصنع أجهزة جديدة، واستبدال الأجهزة الأصلية، واحداً تلو الآخر. يجب أن نتأكّد من تسليم أجهزة البيجر الجديدة الخاصّة بنا. وهذا ممكن لأنّنا نستطيع معرفة كلّ شيء حتى الأرقام التسلسلية، والتغليف، وكلّ شيء. مع بضعة آلاف من الوحدات، يمكنك استبدال منصّة شحن بأخرى. من الذي يعتني بهذه المنصّات؟ هل تعتقد أنّ رجلاً من الحزب كان يرافقها طوال الطريق؟ لا”.

اغتيال عيّاش

إذا كان الحجم والتفاصيل غير عاديّين، فهذه ليست المرّة الوحيدة التي يستغلّ فيها الموساد التكنولوجيا اليومية، والهواتف على وجه الخصوص. ففي عام 1972، تسلّل عملاء الموساد الذين يسعون إلى الانتقام من مرتكبي عملية أولمبياد ميونخ الشقّة في باريس حيث كان يعيش محمود حمشاري، ممثّل منظمة التحرير الفلسطينية. وبينما كان خارجاً لإجراء مقابلة مع عميل متظاهر بأنّه صحافي إيطالي، استبدل عملاء آخرون قاعدة هاتفه بالمتفجّرات. في 8 كانون الأول، اتّصلوا به وأكّدوا وجوده هناك وفجّروا القنبلة. لم يتعافَ أبداً من إصاباته وتوفّي بعد شهر.

في عام 1996، اغتيل يحيى عيّاش، كبير صانعي القنابل في حماس، على يد جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي الشاباك، باستخدام هاتف محمول مفخّخ. لقد أقنعوا كامل حمد عمّ صديق عياش في الطفولة أسامة حمد بالعمل لمصلحة الشاباك، مع علمهم بأنّ عياش كان يستعير هواتف أسامة في كثير من الأحيان. لقد أعطوا كامل هواتف تمّ العبث بها، وتمّ تسليمها إلى أسامة، الذي سلّمها إلى عيّاش. في وقت مبكر من صباح يوم 5 كانون الثاني، اتّصل والد عيّاش به. التقطت طائرة تجسّس إسرائيلية المحادثة ونقلتها إلى الشاباك، الذي فجّر الجهاز، وهو ما أدّى إلى مقتل عياش على الفور.

يقول أميت آسا، الذي عمل في الشاباك خلال اغتيال عياش عام 1996: “كانت إسرائيل تبحث عنه منذ فترة طويلة. واستغرقت العملية شهوراً من التحضير. كانت عملية كبيرة جداً وأنت تنتظر اللحظة المناسبة. الجميع يعمل ليل نهار بدون نوم. كان نجاحاً فريداً من نوعه، لكنّ الشعور كان شعوراً بالارتياح، وليس الفرح. كان من المريح أن يتمّ إبعاد هذا الإرهابي عن الطاولة لأنّه كان يقتل الكثير من الإسرائيليين”.

الهواتف المحمولة جذّابة بشكل خاصّ لأنّه يمكن استخدامها لمراقبة الأهداف في الأسابيع أو الأشهر التي تسبق الهجمات قبل أن تتحوّل إلى قنابل في اللحظة الحرجة. يقول آسا: “يعلم الحزب وجميع الإرهابيين الآخرين أنّه إذا كنت تحمل هاتفاً محمولاً، فمن السهل جداً تحديد موقعك بواسطة نظام تحديد المواقع العالمي. لذا تمّ اعتبار أجهزة البيجر أكثر أماناً لأنّها لا تستطيع سوى الاستقبال وليس الإرسال. ولم تكن اتصالات الحزب تتوقّع أن تتلاعب القوات الإسرائيلية بطريقة ما بآلاف الأجهزة، أو أن تزرع الألغام على نطاق صناعي”.

يقول جوناثان سباير، وهو مؤلّف ومستشار خدم في فوج دبّابات إسرائيلي: “هذا ما نسمّيه “هجوم سلسلة التوريد”، حيث قامت شركة أسّستها إسرائيل أو تعمل نيابة عن إسرائيل بتزويد الحزب بالأجهزة”.

وفقاً لسباير، “لم تستخدم إسرائيل أجهزة الاتّصال حصراً في هذه الهجمات. في شباط 2008، قُتل عماد مغنية، الرجل الثاني في الحزب، في انفجار سيارة مفخّخة، يُزعم أنّه جزء من جهد مشترك بين وكالة المخابرات المركزية والموساد بعد سنوات من محاولات الاغتيال. لذا أحد المسؤولين عن صيانة سيارته كان هو من نفّذ العملية”. ويقول: “الميزة الأولى لهذا النوع من العمليات هي أنّه لا يترك بصمات الأصابع. الجميع يعرف من المسؤول، لكن لا يوجد توقيع واضح للقول إنّ هذا كان عملاً من أعمال الحرب. ثانياً، لا توجد تكلفة لأنّه ليس من الضروري المخاطرة بحياة المواطنين في البلد الأصلي. تفضّل الخدمات إلى حدّ بعيد عدم تعريض موظّفيها للخطر. ويتّصل هذا أيضاً بالتقدّم التكنولوجي. من الصعب جداً تحقيق فكرة أنّه يمكنك الحصول على عملاء خاصّين بك من العباءة والخنجر. تميل الخدمات إلى استخدام التكنولوجيا، كما رأينا للتوّ، أو دفع مبالغ صغيرة من المال للسكّان المحليين”.

ترجمة اساس

النص الأصلي:

https://www.telegraph.co.uk/world-news/2024/09/18/the-secrets-of-mossads-fearsome-reputation/

مقالات ذات صلة