أيام صعبة آتية: هل آن أوان الصواريخ الدقيقة؟

لاثة مَشاهِد لبنانية، في وقت واحد، يمكن أن تكون شغَلت المستوى الشعبي والسياسي والعسكري في إسرائيل. فالموجة الثانية من تفجيرات أجهزة الإتصال التابعة للمقاومة كانت في الساعة الخامسة عصر الأربعاء، ترافق ذلك مع تشييع شُهداء ارتقوا بعد ظهر الثلاثاء. الإعلام نَقل حالة الهرج والمرج الجديدة وشهداء وسيارات إسعاف وجرحى في تفجيرات لاسلكية إضافية توالت من يوم إلى يوم، ونقَل أيضاً تلك المَشاهد الثلاثة التالية: تشييع نجل النائب علي عمّار الذي لم يتزحزح فيه أحد من الحضور من مكانه، والتفجيرات على بُعد أمتار. التشييع الثاني في صور وقد أُجريَت مراسم عسكرية كاملة للشهيد، وطائرات الاستطلاع والتفجير فوق رؤوسهم. التشييع الثالث في إحدى قرى الجنوب حيث حضر المئات، فانفجر في يد المسؤول عن تنظيم الجنازة جهاز اتصاله وأرداه جريحاً، فتم نقلُه في سيارة الدفاع المدني وأكملت الجنازة والناس سيرهم إلى المدافن، وقد نقلت أحدى محطات التلفزة تعليق امرأة بين الحشود غير عابئة بما جرى «مكمّلين ببرَكة الحُسين».

هذه عيّنة من الناس الذين تقاتلهم إسرائيل في لبنان. ويبدو أنه لا «ينفع» فيهم تهديد ولا وعيد ولا حتى تفجير في ما بينهم و«مكمّلين ببرَكة الحسين».

ليس خافياً أن ما فعلَته إسرائيل، يومي الثلاثاء والأربعاء في مناطق البيئة الحاضنة للمقاومة، وعلى حدود لبنان مع إسرائيل، هو عمَلٌ يسبق اجتياحاً وحرباً. ذلك أن ضرب التواصل بين رجال المقاومة سيشلّ الحركة بينهم، في الميدان، فتصبح «رحلة» الجيش الإسرائيلي إلى جنوب لبنان أسهل. هكذا ظنت إسرائيل. لكنّ حصول التفجيرات «قبل أوانها الحربي» يشير إلى أن إسرائيل شعرت باستعلاماتها أن خطتها في تفخيخ أجهزة التواصل كادت تكشَف، فاضطرّت إلى تفجيرها قبل الجهوزية العسكرية عند جيشها على خوض الحرب «الكبيرة» وقبل استعدادها الكافي. فكانت الضربة الفظيعة معزولة عمّا بعدَها الذي هو نقل الوحدات القتاليّة الأساسية من جبهة غزّة إلى جبهة لبنان وهو ما يجري حاليّاً.

رغم عِظَم الكارثة على المقاوَمة وبيئتها، فإنّ قدرةً إلهيّة أو ما ورائية، غيبيّة، قادت بعض عناصر المقاومة إلى اكتشاف اختراق أمني خطير بين أيديهم، وقبل التأكد من الخطورة وإعلان الأوامر بالتخلّي عن الأجهزة، فجّرتها إسرائيل فـ«ربحَت» جولة دموية وحشيّة كعادتها، لكنّ الوقت «المكثَّف» كان شبه كافٍ لاستيعاب الأمر عند المقاومة خصوصاً في المواقع الجنوبية الأماميّة التي من المؤكد أنها عادت إلى وسائلها «المتأكّدة» منها. وكل يوم يمرّ قبل حرب إسرائيل «الموعودة» يُسجَّل في رصيد الاستيعاب والتجاوب مع المتطلّبات الجديدة لدى المقاوَمة.

يعرف العالَم، كل العالَم، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو يريد حرباً الآن مع لبنان ينشغلُ فيها (هو والعالَم) عن مطالب أميركية ودولية بوقف إطلاق النار في غزّة، للأشهر الثلاثة المقبلة التي يعتبر أنه سيستطيع فيها إنهاء «حزب الله»، ريثما يتحوّل ترامب من مرشّح للرئاسة إلى رئيس، فيعود نتنياهو (بعد رحلته في جنوب لبنان!) إلى غزّة للتصفية النهائية للمشروع الفلسطيني بمباركة ترامب الذي لا يزال يصرّح أن دولة «إسرائيل جغرافياً صغيرة ويجب أن تتوسّع».

نتنياهو، ببساطة متناهية، ومع غروره المعهود الذي يقرِّب له الأوهام والتمنيات، يريد أن ينتظره العالَم ليؤمّن كل المستلزمات التي تخوّله القول إنه أنهى «حزب الله» وأنهى «حماس» وأنهى الشعب الفلسطيني واحتلّ الجزء الذي ينغّصه من لبنان!

ويعرف نتنياهو أن ما رآهُ من المَشاهد الثلاثة التي ذكَرتُها في بداية مقالتي يدلُّ على أي بيئة جاء يقاتل. وأغلب الظن أن معظم مقاتلي الحزب اليوم هم في وضع نفسي تحترق فيه الأعصاب تشوّقاً للمعركة، و«مكمّلين ببرَكة الحسين» ليست شعاراً بل هي قضية يعيشها الجنوبيون يومياً باللحم والدم العاريين إلّا من سلاح الكرامة.

العالَم الآن ينتظر رد المقاومة. وكما استخدم نتنياهو سلاحاً تجزيريّاً استثنائياً، سيكون صعباً على المقاومة أن تواجهه بالكاتيوشا والطائرات المسيّرة والانقضاضية. ومرجّحٌ لدى المراقبين، ومنهم أميركيون، أن تخرج الصواريخ الدقيقة من أنفاقها، والأهداف (كما يتكهّن حتى معلّقون إسرائيليون) قد يكون منها تدمير مطار حربي إسرائيلي بما فيه من مقاتلات حربية وجنود وضباط، أو مُنشأة عسكرية كبيرة وذائعة الصيت، وثمة من قال إن قيادة الأركان الإسرائيلية ليست بعيدة عن أن تكون هدفاً للتدمير.

أيام صعبة آتية. فحين يقرّر نتنياهو ضرب ثلاثة الآف شاب من مقاتلي المقاوَمة، بلحظة واحدة، سيُمضي وقتاً صعباً هو الآخَر في انتظار الردّ.

ومما يُحكى عن الحوار الذي دار بين نتنياهو وهوكشتاين قبل أيام، أن هوكشتاين حذّره من أن ضرب المدنيين في جنوب لبنان ستكون له عواقب في دول العالَم، فأجاب نتنياهو «أنا مطمئن من هذه الناحية لأن جنوب لبنان بات خالياً من المدنيين». هي نفسُها الجُملة التي قالتها غولدا مائير قبل سنوات من إنشاء دولة إسرائيل عندما سُئلَت عن أهل الأرض التي سيحتلّونها (أي شعب فلسطين) أجابت: هي أرض بلا شَعب، لشعب (اليهود) بلا أرض.

العقل نفسُه يعود بعد خمسة وسبعين عاماً على اغتصاب الأرض. والحل: هو أن يُهزَموا بأي طريقة. بوضوح: أن يُهزَموا. وأن نُعدّ لهم من «رباط الخيل» ما استطعنا، وإلّا فإنّ الشارة التي يضعها جنود الجيش الإسرائيلي وضبّاطه على أذرعتهم وتَظهر فيها الدول العربية من النيل إلى الفرات ضمن دولة اليهود المزعومة.. ستتحقّق!

عبد الغني طليس

مقالات ذات صلة