سقط الخط الأحمر: هؤلاء “أخّروا” توقيف رياض سلامة لضمان… سلامتهم!

توقيف الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة بقرار من النائب العام التمييزي، وهو أرفع مرجعية مُلاحقة في النظام القضائي اللبناني، يستحيل التعامل معه من الناحية القانونية وحدها، لأنّ منسوب السياسة في تكوينه مرتفع للغاية.

منذ الانهيار المالي والمصرفي في خريف عام 2019، تسلّطت الأضواء على رياض سلامة الذي كان قد أمضى، حتى ذاك التاريخ، 27 عاماً في منصبه، إذ جدّدت الحكومات المتعاقبة ولايته التي تمتد على 6 سنوات، 4 مرّات.

وأظهرت التحقيقات التي تتابعت في عدد من العواصم الدولية تورّط سلامة والمقرّبين منه في عدد كبير من ملفات الفساد، تتمحور كلّها حول “صرف النفوذ”، بحيث استفاد حاكم مصرف لبنان نفسه ومجموعته من منصبه، من أجل تحقيق أرباح كبيرة على حساب المال العام.

العاصمة الأولى التي أسقطت رياض سلامة كانت باريس. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي توهّم، فترة من الزمن، أنّه قادر على إنقاذ لبنان ممّا يتخبّط به من كوارث اقتصادية ومالية وسياسية، كان أوّل من أطلق الرصاص المعنوي على سلامة، واتهمه بأنّه أنشأ نظام احتيال مالي في مصرف لبنان، بتطبيقه “نظام بونزي” الذي يقوم على مبدأ الاستدراج من خلال دفع أرباح طائلة للمستثمرين السابقين، باستخدام أموال المستثمرين الجدد.

وعجز القضاء اللبناني، على الرغم من تراكم الملفات ضدّ رياض سلامة، من مسّ شعرة من رأسه، الأمر الذي مكّنه من البقاء في منصبه حتى آخر يوم من ولايته الرابعة، فخرج إلى التقاعد في آخر تموز (يوليو) 2023 متمماً 30 سنة في “الخدمة”!

حظي سلامة، طوال الفترة الفاصلة عن ملاحقته في الخارج، حيث صدرت مذكرات توقيف بحقه وبحق مقرّبين منه، بحماية سياسية لافتة من أقوياء النظام في لبنان. كان واضحاً للجميع أنّ الرجل الذي تعامل مع الطبقة السياسية اللبنانية، على اختلاف انتماءاتها وتوجّهاتها، يملك الكثير من “عناصر الحماية”. فهو لا يعرف كواليس “النظام الزبائني” اللبناني فحسب، بل هو أساسي فيه أيضاً، حتى قيل عنه، مِن أدرى الناس به، إنّه يتبادل مع هذه الطبقة السياسية الخدمات: يموّلها وتحميه، يوفّر ديمومتها وتُعينه على الاستمرار في منصبه، حتى يأتي اليوم الذي ينتقل فيه من المصرف المركزي إلى القصر الجمهوري.

عزّز سلامة هذه الثقة بمدى معرفته بحقيقة الطبقة السياسية اللبنانية، عندما قال للقضاة، قبل أكثر من شهرين من ترك منصبه “بالطبل والزمر والتكريم”: “ابدأوا بالسياسيين وليس بحاكم المصرف المركزي”.

ومن آخر تموز (يوليو) 2023 حتى يوم الثلاثاء الأخير، حظي سلامة بحماية لافتة من أقوياء هذا النظام، ولم يقترب منه أي جهاز مخوّل تنفيذ القرارات القضائية، على الرغم من أنّه كان مطلوباً. فقد حماه هؤلاء الذين كان يُفترض بهم أن يوقفوه.

فجأة، تغيّر كل شيء. ما كان محظوراً حصل، وتمّ توقيف رياض سلامة بقرار من النائب العام التمييزي.

في الفترة الفاصلة بين خروج سلامة من منصبه ويوم توقيفه، مرّت فترة طويلة: 13 شهراً!

في هذه الفترة، كان سلامة لاجئاً عند أقوياء النظام اللبناني. الخارج محظور عليه، فهو إن سافر تمّ توقيفه، فثمة مذكرات توقيف بحقه عمّمها “الأنتربول”، وثمة عقوبات كثيرة صادرة بحقه من أكثر من عاصمة مؤثرة في العالم، بما في ذلك واشنطن التي طالما قيل إنها كانت توفّر له شبكة أمان.

وكانت هذه الفترة كافية لاكتشاف الطبقة السياسية ما يخبئه سلامة ضدّها، في حال سمحت بسقوطه. لم يكن مستعصياً عليها الدخول إلى دهاليز مصرف لبنان والتدقيق بقيوده والتفتيش في المستندات وحتى إخفاء ما يجب إخفاؤه. فترة كانت كافية لاقتلاع النيوب وتقليم البراثن وتحويل تهديدات رياض سلامة إلى حالة خُلّبية غير قادرة على التسبّب بأي أذِيّة!

عندما اكتملت المهمّة، سقط الخط الأحمر، وأمكن توقيف رياض سلامة، لكن بملفات محدّدة، حيث تكون الشبهات محصورة به هو ومجموعته.

لن يكون مسموحاً التحقيق مع رياض سلامة في هدر ودائع اللبنانيين، لأنّ ذلك لا يمكنه، ولو معنويّاً، أن يُخرج الطبقة السياسية سليمة من الحقائق. فهو، في سياق إنفاق أكثر من 73 مليار دولار أميركي، كان أصغر المستفيدين المباشرين. الطبقة السياسية هي المتورطة فعلاً. كل ما يمكن أن يناله المودعون من توقيف رياض سلامة هو “فشّ خلق”. رياض سلامة ليس “كبش فداء”، لكنّه، بواقعية، ليس “ناهب الودائع” و”هادرها”.

بهذا المعنى، لا يمكن أن يكون قرار توقيف رياض سلامة إحياء لـ”دولة القانون” في لبنان، بل هو، بكل ما للكلمة من معنى، محاولة للاستفادة من القانون للتغطية على سقوط “دول القانون”. في لبنان، لا قيمة قانونية لأي حدث قضائي، طالما هو مجرد “استثناء”. القاعدة هي حماية كبار المجرمين، وخرق الدستور، وتعطيل آليات الديموقراطية، والعجز عن التشريع المنتج، ومصادرة ميليشياوية لقرار الحرب والسلم. فالخسائر التي راكمها توريط “حزب الله” للبنان في “حرب الآخرين” خدمة لإيران، تفوق بعشرات الأضعاف ما يمكن أن يكون رياض سلامة قد “نهبه” لنفسه ولمجموعته!

وليس أدلّ إلى أن قرار توقيف رياض سلامة لم يكن ممكناً الإقدام عليه، لولا توافر المصلحة السياسية، سوى بقاء القضاء نفسه عاجزاً في ملف تفجير مرفأ بيروت. أقوياء الطبقة السياسية الحاكمة يرفضون الإفصاح عن كامل الحقيقة في ملف المرفأ. وبما أن المحقّق العدلي، الذي يضع يده مبدئيّاً على هذا الملف، لا يريد تقديم وقائع مجزأة ولا الرضوخ للحمايات السياسية المتوافرة لمن يعتبر أنهم متورطون، يتمّ تجميد كل شيء. وملف المرفأ قد يكون الدليل الصارخ، لكنه ليس الوحيد، على أنّه حيث تدخل الحمايات السياسية تتعطّل مفاعيل العدالة، ولنا في قضايا الاغتيالات ما يكفي من نماذج!

يستحق رياض سلامة أن يمضي ما تبقّى له من العمر متنقلاً بين السجن وغرف التحقيق، فما فعله لنفسه وللطبقة السياسية لا يمكن أن يطويه أي نوع من أنواع العفو أو النسيان. لكن المشكلة كانت وستكون أنّ اللبنانيين لن ينالوا حتى فُتات المائدة، فالعدالة حين تسقط تحت وطأة السياسيين ترفع منسوب الضباب لتغطي كنوز الحقيقة!

فارس خشان- النهار العربي

مقالات ذات صلة