ميزان الدّكنجي وميزان الجوهرجي وسط الاضطرابات الكبيرة: لا تقفزوا بعُجالة فوق مواقف وليد جنبلاط الأخيرة!

نُدرك أن المجريات الفرعية لا تُستساغ إبان الطوفان الجارف، والصدامات الوجودية المؤلمة عادةً ما تخفي أوجاع الجروح البسيطة. ويمكن إدراج الحكايات الصغيرة كمثال في القضايا الكبيرة، فحسابات “الدكنجي” المُتساهلة عادة في طبشة الميزان التي قد تأخذ منه قليلاً من البقوليات أو الحوائج الزهيدة الثمن تختلف عن حسابات الجوهرجي الذي إذا فرَّط بتوازن ميزانه الدقيق قد يخسر الثروة. وتلكُم مقاربة قد تنطبق في السياسة، بحيث إن المطلوب من القادة والحكماء يختلف عن مستوجبات الآخرين ودورهم.

قديماً قيل؛ “العقلُ قبل شجاعة الشجعانِ” وعند الإمتحان يُكرَمُ المرءُ أو يُهان.

لا يمكن القفز بعُجالة فوق مواقف وليد جنبلاط الأخيرة، أو اعتبارها جزءاً من توليفة يوميات العمل السياسي اللبناني، كونه رئيساً سابقاً للحزب التقدمي الاشتراكي وله المونة الثابتة عليه، وباعتباره الزعيم الأكثر تأثيراً في الرأي العام في طائفة الموحدين المسلمين الدروز. ذلك أن ما حملته مواقف جنبلاط حول ما يجري في فلسطين وفي الجولان وفي جنوب لبنان، وحول متفرعات العدوان الإسرائيلي الذي ذهب بعيداً في تماديه الإجرامي ليطال حياة قادة كبار خارج ميدان المعركة، بعدما ذبح الأطفال والأبرياء في غزة وفي الضفة الغربية وفي جنوب لبنان وفي مجدل شمس العربية السورية؛ كانت لها دلالات مهمة، وكذلك تأثيرات مهمة في الوقت ذاته أيضاً.

ليس دفاعاً عن جنبلاط وهو من القلائل من القادة الذين لا يصغون إلى المديح، ولا يستسيغونه، بل لتوضيح وقائع دامغة تجاهلتها الهجومات الإعلامية التي تناولت مواقفه الأخيرة من ضمن حملة بانت كأنها مُبرمجة ومدروسة بعناية ولو كانت أقل تأثيراً من الثناء الذي أُسديَ عليه، وهذه الحملات، ركَّزت على بعض التفاصيل من دون أن تدخُل في صلب الموضوع، ومنها أن جنبلاط انقلب على بعض حلفائه من “التيار السيادي” والتحق بخط الممانعة، وهو يتقلَّب بمواقفه بما يتناسب مع مصلحته، وذوداً عن أي أخطار قد يتعرَّض إليها الموحدون الدروز من دون إعارة أي اهتمام للالتزمات الوطنية أو التحالفية (على ما يقول مطلقو الحملات ضده). وهؤلاء معروفون تقريباً، بميولهم، ومن خلال الوسائل التي يستخدمونها.

في قواعد العلوم السياسية الثابتة، أن من أهم موجبات القائد السياسي رعاية مصالح مؤيديه، أو الذين يتولّى شؤونهم، والسير أمامهم بالمنحدرات وفي الصعود وفي الدُنو على الطريق المرسوم ذاته. والطرق ليست مُستقيمة على الدوام، بينما الثابت هو الهدف، وبالتالي فلا يمكن أن تكون مواقف وليد جنبلاط الأخيرة انحرافاً، كونها مُنسجمة مع القاعدة المُعتمدة، بالنسبة إلى الطائفة الدرزية وبالنسبة إلى خط الحزب التقدمي الاشتراكي وبالنسبة إلى لبنان واستقراره ووحدة أبنائه. وبصرف النظر عن التباينات السياسية الداخلية الكبيرة مع محور الممانعة – والتي لا يخفيها جنبلاط، وبانت واضحة إبان زيارة أمين سر دولة الفاتيكان وفي المواقف التي أطلقت ضد قبرص – فهو يرى أن المصلحة العليا للبنان، كما لحزبه وطائفته؛ هي بحرمان إسرائيل من استغلال أي تباينات داخلية لبنانية، أو عربية – عربية، أو طائفية ومذهبية، تساعدها في تنفيذ مهمتها العدوانية. وإسرائيل عدو يتربّص بلبنان شراً منذ القِدم، كما يستهدف تفتيت المنطقة برمّتها، وزرع الشقاق بين شعوبها، والاستيلاء على مقدراتها. وهي تحاول استغلال الموحدين الدروز تحديداً لخدمة مشروعها العدواني، لأن هؤلاء معروفون بأنهم لا يغادرون أرضهم مهما كانت الصعوبات، وإسرائيل ترغب في تفريغ الأراضي العربية في كل فلسطين من أهلها، كما تريد الهيمنة على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف.

لا يمكن الدخول في تفاصيل ما جرى منذ عملية 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وهل كانت العملية ناجعة بتوقيتها وبنتائجها؟ لكننا متأكدون أن اليمين الإسرائيلي المتطرِّف استغلَّ هذا الحدث لاستكمال مخططهِ التهجيري للفلسطينيين من غزة ومن الضفة.

والهجمات العدوانية الإسرائيلية؛ لم تكُن رداً على عملية 7 تشرين الأول على الإطلاق، بل كانت حرب إبادة لم يحصل مثلها عبر التاريخ، وهدفت إلى طرد من تبقى على قيد الحياة من الفلسطينيين في غزة إلى خارج أرضهم، لكنها لم تنجح. والرد التضامني من “حزب الله” انطلاقاً من جنوب لبنان؛ لم يكُن أعمالاً حربية واسعة النطاق، بقدر ما هو مساندة، ومحاولة لتخفيف الآلام عن الضحايا الفلسطينيين.

حصل ما حصل، والوضع ما زال في منتهى الخطورة. وكانت مواقف وليد جنبلاط واضحة لناحية تأييد كل عمل مقاوم للمشروع الصهيوني في فلسطين وفي لبنان وغيرهما، وهي ثوابت جنبلاطية موروثة لم يفرِّط بها جنبلاط وحزبه منذ عام 1948 حتى اليوم. والتقارب الذي حصل بين جنبلاط و”حزب الله” والبيئة الحاضنة له، لم يكُن على الإطلاق على حساب الوحدة الوطنية اللبنانية، بل لتعزيز هذه الوحدة وتثبيتها. كما لم يكن على حساب تمسُّك جنبلاط بالمصالحة الوطنية التي حصلت مع المثلث الرحمة البطريك نصر الله صفير في آب (أغسطس) 2001. وجنبلاط وحزبه كان إلى جانب القوى “السيادية” طيلة 11 جولة انتخابية لإيصال رئيس جديد للجمهورية يحترم الثوابت الوطنية ومصالح لبنان مع أشقائه العرب ومع أصدقائه في العالم، ويحفظ مؤسسات الدولة لتعمل بشفافيةٍ واستقلالٍ وفق القوانين المرعية من دون أي هيمنة أو محاباة، لكن هذا الحراك لم يصِل إلى النتيجة المرجوة. وقد التبست مواقف جنبلاط على البعض، ومنهم ذهب بعيداً في الاسترسال إلى حد إطلاق نعوت لا تليق وتشخيصات لا تنطبق على الواقع، إلى حد أثار الشكوك حول دوافعها في هذا الوقت بالذات.

هل يرى منتقدو جنبلاط على مواقفه الأخيرة أن الوقت مناسب للمشاحنات الداخلية التي قد تذهب بالوطن في مجهولٍ مؤلم؟ وهل يرون أن إجهاض جنبلاط للمخطط الإسرائيلي بتطويع دروز الجولان الذين يتمرَّدون على الاحتلال، وبمنع الفتنة بين المسلمين الشيعة والدروز انطلاقاً من ارتكاب العدو مجزرة مجدل شمس والشروع إلى استغلالها؛ هو تكويعة أو تغيير في التموضُع الوطني؟!

المتابعون المحايدون من غير المروجين للمشروع الإسرائيلي يقولون إن حسابات جنبلاط كانت واقعية، وهي ستساعد في تدوير الزوايا للوصول إلى مخرج للانسداد الذي يواجه عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وعملية الانتخاب لا يمكن أن تحصل في أجواء من التحدي، ولا بد من تسوية مُشرفة تنقذ لبنان من الهلاك القائم، بينما رفع سقف الخطاب المعادي لـ”حزب الله” في هذا الوقت بالذات يؤدي إلى تفاقم حالة الانقسام، ولا يفيد في استعادة التوازن الداخلي ولا في عودة الحياة إلى المؤسسات الدستورية.

ناصر زيدان- النهار

مقالات ذات صلة