سحر الموسيقى والذاكرة وكيف لا ننسى كلمات الأغاني بعد عقود

أثناء الاطلاع على تشكيلة أغاني “مهرجان غلاستونبري” [في إنجلترا] الذي أقيم هذا العام، استوقفني أمران. أولاً، العدد المهول من أعمال الحنين إلى الماضي، بدءاً بمغنية الروك والبوب وكاتبة الأغاني الكندية من أصل فرنسي أفريل لافين وفرقة الروك الإنجليزية “كين”، مروراً بفرقة الفتيات “شوغابيبس” Sugababes، وصولاً إلى المغنية ومؤلفة الأغاني البريطانية كورين بيلي راي. ثانياً، حقيقة أنني أستطيع أن أغني عن ظهر قلب كل الكلمات التي تحملها أنجح أغانيهم، على رغم أنني لم أستمع إلى أي منها منذ سنوات مضت.

وهنا، لا بد أن أقول إني لا أفقه في النغمات شيئاً، وأملك ذاكرة سيئة جداً غالباً ما تخونني. ذكرياتي عن العطلات برمتها، والكتب التي قرأتها، وحتى الأحاديث التي خضتها في حالات الانفصال، تسللت من مصفاة ذهني، إلى قاع بالوعة النسيان حيث لن أعثر عليها مجدداً.

بالطبع، لست الوحيدة القادرة بطريقة أو بأخرى على أن تتذكر الموسيقى أكثر من أي شيء آخر. عند الذهاب في رحلة طويلة بالسيارة، ما زال أصدقائي حتى يومنا هذا يغنون، وسيغنون، كل كلمة من أغاني ألبوم المغنية البريطانية الشهيرة ناتاشا بيدنغفيلد “غير مكتوب” Unwritten الصادر عام 2004. أما جدتي المصابة بــألزهايمر تسمعها تدندن أغاني حب تعود إلى خمسينيات القرن العشرين، في وقت لا تتعرف إلى أحفادها إلا بصعوبة. إذاً، ما السمة الخاصة التي تميز الموسيقى فتتركها عالقة في أذهاننا؟

يعود السبب في جزء منه إلى “الإلمام الخالص”، كما توضح كيلي جاكوبوفسكي، البروفيسورة المشاركة في قسم الموسيقى في “جامعة دورم” في إنجلترا. نحن نستمع مراراً وتكراراً إلى ذات الأغنية، ولمرات أكثر بأشواط مما نقرأ الكتاب عينه أو نشاهد الفيلم نفسه. هذا التعرض المفرط لنفس الأغنية مرات عدة يعزز ما يسمى الأثر في الذاكرة. وعلى رغم أن المرة الأخيرة التي سمعنا فيها أغنية ما تعود إلى 20 عاماً مضت، فإننا على الأرجح قمنا بتشغيلها بصورة متكرر آنذاك. وينطبق تأثير التكرار هذا أيضاً، للأسف، على حفظ الكلمات بطريقة خاطئة. مثلاً، لو أنك أثناء استماعك إلى فرقة “آبا” Abba رحت تردد الكلمات “اشعر بالإيقاع على المندرين” feel the beat on the tangerine مرات كافية، فستجد أنه من المحال تقريباً أن تغني الكلمات الصحيحة، ألا وهي: “اشعر بالإيقاع على الدف” Feel the beat on the tambourine.

عامل آخر يجعل الأغاني لا تنسى، ويتمثل في أن الموسيقى مجبولة بـ”العاطفة”. تقول جاكوبوفسكي: “تظهر البحوث في علم النفس أننا نتذكر الأمور العاطفية على نحو أفضل من الأمور غير العاطفية”. ولا يرتبط ذلك بالمشاعر التي تعبر عنها الأغنية نفسها، بدءاً من الحزن المؤلم الذي يلف أعمال المغني وعازف الغيتار جيف باكلي، إلى الطاقة المحفزة المنبعثة من أغاني النجمة الأميركية أريثا فرانكلين، بل يرتبط أيضاً بالمشاعر العميقة التي نملكها وتستفيق استجابة للموسيقى، أو المواقف المحيطة بهذه الأغنية أو تلك، مثل: جنازة أو حفلة. وتضيف جاكوبوفسكي: “إن التعبير اللفظي والسلوكي عن المشاعر العميقة تجاه محفز ما يسمح أيضاً بحدوث تشفير أو حفظ عميق للتجربة في العقل”. والمقصود أنه كلما كان الموقف لا ينسى، تضاعف احتمال أن نتذكر الأغنية التي كنا نسمعها في الأثناء.

العامل الأخير الذي يترك الأغاني راسخة في رؤوسنا، ويرتبط بالعاطفة أيضاً، أنه عند الاستماع إلى الموسيقى، تشتغل أجزاء عدة من دماغك. تقول جاكوبوفسكي: “لا تعمل القشرة السمعية فحسب [جزء من الفص الصدغي في الدماغ يعالج المعلومات السمعية]، بل تنشط أيضاً مناطق مرتبطة بالعاطفة في الدماغ”. تبدأ بالعمل أيضاً المناطق الحركية [القشرة الحركية التي تشارك في التخطيط والتحكم من القشرة الدماغية وتنفذ الحركات الطوعية المنقولة للدماغ]. وتضيف: “يتذكر الناس الحركات ويسترجعون رغبتهم في الرقص على إيقاع الأغنية. تعمل الموسيقى على تنشيط مجموعة واسعة جداً من المناطق في الدماغ مرتبطة بالذاكرة، ولكن أيضاً متصلة بالعاطفة والحركة، إضافة إلى التأثر بالمكافأة، وما إلى ذلك”.

وبفضل هذا “التشفير العميق”، أصبح بعض المصابين بالخرف قادرين بصورة غير عادي على تذكر نغمة ما حتى عندما يبدو أن كل شيء آخر قد تلاشى من ذاكرتهم. ففي عام 2020، اجتاح الإنترنت مقطع فيديو تظهر فيه راقصة باليه سابقة تشع فرحاً وتصفق بذراعيها عند سماع مقطع لحني من [الرائعة الموسيقية] “بحيرة البجع” للموسيقار الروسي الشهير تشايكوفسكي. وفي وقت سابق من العام الحالي، أمسكت جدتي بيدي وغنت بهدوء كل كلمة من “سام وان تو واتش مي أوفر”Someone to Watch Over Me” (شخص يعتني بي) بصوت مغنية الجاز الأميركية إيلا فيتزجيرالد خلال تشغيل الأغنية في جنازة جدي. ولكن عندما غادرنا المكان، شعرت بارتباك لأن زوجها الذي شاركته حياته طوال ستة عقود لم يكن يسير إلى جانبها، ونظرت إلى الأبواب خلفها، وسألتني أين عساه يكون.

سارة ميتكالف بدورها، التي تترأس حملة “الموسيقى من أجل محاربة الخرف”Music for Dementia campaign، كانت شاهدة على لحظات عدة مماثلة مع مرضى يكابدون داء النسيان هذا. وتقول: “شغل الأغنية المناسبة وستجد أن أشخاصاً لم يتحدثوا لفترة طويلة فعلاً، على مدى أسابيع أو أشهر، قد بدأوا فجأة في الغناء، ما يترك وقعاً قوياً حقاً لدى عائلات هؤلاء، ذلك أن القدرات التي ظنوا أنها اختفت لدى أحبائهم تعود فجأة”.

وتقول ميتكالف إن أهمية الموسيقى لا تنحصر بالأشخاص المصابين بالخرف فحسب، “إذ يمكنها أيضاً تغيير حياة مقدمي الرعاية الصحية والعائلات التي تعتقد أنها قد فقدت هذا الشخص أو ذاك”. تعرف ميتكالف أشخاصاً بدأوا يقصدون الكنيسة للمرة الأولى في حياتهم لأنهم هناك فحسب يسمعون صوت والديهم. وتشرح في هذا الصدد: “ربما لا يتحدثون أبداً خلال الأسبوع، ولكن ما إن تصحبهم إلى الكنيسة ستجد أن ترنيمة قديمة متأصلة ما زالت متربعة عميقاً في داخلهم. كم قوية حقاً القدرة على استعادة صوت شخص ما”.

كذلك يستعيدون حركتهم. شهدت ميتكالف التأثير الذي تطرحه الموسيقى على القشرة الحركية في الدماغ مرات عدة. تشرح قائلة: “لدى بعض المصابين بالخرف، تصبح الحركة شديدة الصعوبة”، مستذكرة قصة رجل يواجه عادة صعوبات جمة كي يمشي خطوات قليلة، ولكن عند الاستماع إلى الموسيقى، تجده يرقص في غرفة الجلوس في منزله، وعلى ساق واحدة. وتتابع: “كان مؤثراً رؤية التعابير البادية على وجهه، ومشاعر الحرية والبهجة التي كانت تجتاحه في تلك اللحظة”.

ولكن ليست كل أغنية قديمة قادرة على أن تترك التأثير الذي نتحدث عنه. توضح جاكوبوفسكي أن أقوى ذكريات الموسيقى، وكل الأمور الأخرى، تنبع من فترة معينة في حياتنا، تسمى “نتوء الذكريات”. وتقول “تمتد هذه الفترة من سن 10 إلى 30 عاماً تقريباً، بحسب الدراسة التي تستشهدين بها. إذا سألت شخصاً مسناً، ’ما أهم الذكريات في حياتك؟‘، أو أعطيته إشارات عشوائية، مثل ’تفاحة‘، و’طبيب‘، و’طاولة‘، وطلبت منه التفكير في ذكرى ما سيتذكر بصورة كبيرة ذكريات تعود إلى فترة نتوء الذكريات تلك. جزئياً، ربما نبرر هذه الظاهرة بيولوجياً، ففي الواقع تحتفظ أدمغتنا بالذكريات بصورة أفضل خلال تلك الفترة لأنها الفترة المثالية لعمل الدماغ. ولكنها أيضاً فترة أساسية في تكوين هويتنا، عندما نصبح الأشخاص الذين نحن عليهم”.

وتشير البروفيسورة إلى “بلاي ليست فور لايف” Playlist for Life (قائمة أغان من أجل الحياة)، مؤسسة خيرية تساعد أفراد الأسرة وموظفي الرعاية الصحية في العثور على الموسيقى المناسبة لشخص مصاب بالخرف، وفي تعلم الاستفادة من تأثيراتها.

تتذكر ميتكالف أن أحد الرجال المصابين بالخرف بدأ فجأة يسرد لابنه قصصاً من شبابه بعدما سمع موسيقى لفرقة كان شاهد عرضها في إحدى الحفلات عندما كان بعد مراهقاً. وتقول: “كثر لا يعرفون أن الموسيقى تشكل عاملاً مساعداً فعلاً، ثم يصابون بالدهشة عندما تؤتي ثمارها”.

لا نميل إلى استعادة الموسيقى من سنوات مراهقتنا وأولى سنوات البلوغ فحسب، بل أيضاً موسيقى آبائنا وأمهاتنا. توضح جاكوبوفسكي: “ظاهرة نتوء الذكريات المتصلة بالموسيقى موجودة بين الأجيال، إذ يكون لدى الناس أيضاً نتوء ذكريات ثانوي أصغر يعود إلى سنوات مراهقة أهلهم، مما يشير إلى أنهم قد طبعوا لديهم أهمية نوع معين من الموسيقى”. هكذا، ترى هذا النتوء الثانوي لدى أشخاص يحبون أغاني صدرت قبل ولادتهم، ويحتفظون في عقولهم بذكريات مرتبطة بها. أخيراً، أعتقد أن ذلك يفسر لماذا لن أتمكن أبداً من نسيان والدي وهو يرقص في المطبخ متظاهراً بأنه يعزف على غيتار كهربائي وهمي موسيقى فرقة الروك البريطانية “بينك فلويد”.

في الحقيقة، الموسيقى بارعة فعلاً في فتح صندوق بعض الذكريات، مهما كانت صغيرة. منذ أن كنا أطفالاً، استخدمنا الموسيقى كما لو أنها أداة تساعدنا في الحفظ والتذكر: كي نتعلم الحروف الأبجدية، أو نحفظ أسماء الولايات الأميركية، أو نتذكر عدد الأيام في كل شهر من العام. في الأيام الأخيرة من حياتنا، إذا فقدنا ذاكرتنا، ربما نجد أنفسنا نعود إلى هذه التقنيات. أحياناً نترك مصابين بالخرف يستمعون إلى لحن أغنية مألوفة مثل “توينكل توينكل ليتل ستار” (تلألئي تلألئي أيتها النجمة الصغيرة) Twinkle, Twinkle, Little Star إنما مصحوباً بكلمات جديدة تتعلق تحديداً بروتينهم الصباحي: غسل شعرهم، وتنظيف أسنانهم، وارتداء ملابسهم.

كل ما سبق يجعلني أتساءل عن نوع الذكريات التي سأسترجعها عند الاستماع إلى أغنية ” كومبليكيتد” Complicated (معقدة) بصوت أفريل لافين، الموسيقى التي طبعت أيام شبابي. شغلت الأغنية. وفي الحال، عدت إلى عمر 10 سنوات، ممسكة القرص المضغوط في يدي وناظرة إلى تلك الفتاة المشوشة الغاضبة على غلاف ألبوم “ليت غو” Let Go (إنس). أتذكر كلماتها كلها (“أرى الطريقة التي تتصرف بها/ تتصرف وكأنك شخص آخر، فأشعر بالإحباط”)، وأتذكر تماماً كيف تخيلت ذات مرة شكل علاقة مستقبلية مضطربة تجمعني بصبي في العالم الفعلي. ورق الحائط الفيروزي اللون الذي زين غرفة نومي في تلك الأيام يومض في ذاكرتي. وتجتاج جسمي قشعريرة غريبة.

اندبندنت

مقالات ذات صلة