“انفصام” لبناني: مطاعم مزدحمة وصيف زاخر بالحفلات… وشريحة فقراء “غير مرئيين” تتّسع أكثر فأكثر!
دائماً ما يقترن الحديث عن مآسي اللبنانيين المتأتية من جملة أزمات، وعن عملية تقدير معدلات الفقر في لبنان، مع عبارات نكران، رافضة لواقعية الأزمة. كأن يقول أحدهم “أين هم أولئك الفقراء لا نراهم” أو “أين هو الفقر في لبنان والمطاعم مزدحمة وحفلات الصيف لا تُعد ولا تحصى”. ومنهم من يرفق اعتراضه أو أقله عدم اقتناعه بالحديث عن اتساع شريحة الفقر مع تقديرات المبالغ المالية التي قد يجنيها فنانون عرب يحيون حفلات في البلد.
لم يعتد اللبنانيون الصورة المستجدة التي بات عليها الوضع في لبنان بعد العام 2019. فاللبنانيون يتموضعون في فئات جديدة تضيق فيها فئة متوسطي الحال على حساب اتساع شريحة الفقراء. فالمطاعم والمقاهي والملاهي مزدحمة فعلاً باللبنانيين. والصيف زاخر بالحفلات التي يقارب سعر البطاقة لأي منها راتب شهر كامل لدى فئة من اللبنانيين. وفي الوقت عينه، نعم، الفقر في لبنان في اتساع مستمر، وشريحة الفقراء “غير المرئيين” تتّسع أكثر فأكثر.
مطاعم مزدحمة وحفلات
لا يوحي مشهد المطاعم والمقاهي والملاهي في عدد كبير من المناطق اللبنانية، بوجود أزمة اقتصادية مالية مستفحلة منذ عدة سنوات، وبحرب في جنوب لبنان تتّسع لتطال مناطق اخرى. فمشهد المطاعم وتزاحم اللبنانيين وغير اللبنانيين عليها إنما يعكس صورة نشاط اقتصادي منقطع النظير، مدفوعاً بنشاط سياحي عشية عيد الأضحى ومع بداية موسم الصيف.
اما واقع الأمر، فمغاير تماماً. إذ ينحصر مشهد النشاط الاقتصادي في حركة المطاعم والملاهي، ولا يشملها جميعها، إنما تلك المتواجدة في مناطق سياحية وشوارع نشطة تجارياً، وبالتالي لا تتجاوز تلك الحركة النشطة كونها صورة مصغّرة لما كان عليه القطاع قبل سنوات الأزمة. وتُثبت الأرقام أن قطاع المطاعم ليس في أحسن حالاته، وإن كانت الأسواق شاهدة على الكثير من المطاعم والمقاهي والملاهي المستجدة. فالمطاعم التي تغلق أبوابها تفوق بأعدادها المشاريع المستحدثة. وحسب نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي، انخفضت المؤسسات من نحو 8500 مؤسسة إلى نحو 4500 فقط خلال السنوات القليلة الماضية. أي بتراجع يقارب 47 في المئة.
وفي حين يكثر الحديث عن أن البلد استعاد نشاطه السياحي إلى حد كبير، وأن اللبنانيين “تأقلموا” مع الأزمات وتمكّنوا من التعايش معها، يلاحظ أن الاستثمارات الحقيقية والكبيرة تغيب كلّياً عن البلد، لا فنادق لا منتجعات لا مشاريع جديدة، باستثناء بعض الاستثمارات الصغيرة التي يخوضها الراغبون بتشغيل أموالهم في ظل انعدام الثقة بالقطاع المصرفي.
حفلات الفنانين
مشهد آخر يعكس صورة النشاط السياحي المزعوم، ووفرة مالية بأيدي اللبنانيين، يرتبط بكثافة الحفلات الفنية وأسعارها، التي تصل في العديد منها إلى ما يوازي رواتب 3 موظفين بالقطاع العام. ويراهن العديد من المتعهّدين اللبنانيين على نجاح موسم صيف 2024 وينظّمون حفلات لكبار الفنانين اللبنانيين والعرب ومنهم كاظم الساهر، أصالة، شيرين، عمرو دياب، تامر حسني، وائل جسار، راغب علامة، غي مانوكيان، سيف نبيل، إليسار، وائل كفوري، آدم، محمد رمضان، وغيرهم الكثيرين.
وقد شهدت العاصمة بيروت منذ أيام حفلاً للفنان عمرو دياب حضره ما لا يقل عن 20 ألف شخص ووصلت أسعار بطاقات الدخول إلى نحو 400 دولار.
يستعرض الكثير من اللبنانيين مشهد المطاعم المزدحمة والحفلات الغنائية وغالباً ما تخفي الأحاديث والانتقادات تلك، تشكيكاً بصحة الحديث عن معدلات الفقر والبطالة في لبنان وضعف القدرة المعيشية لفئة واسعة من اللبنانيين. أما الواقع -حسب خبراء ومراقبين- فالفئة التي تنفق الدولارات في لبنان تقتصر على المغتربين اللبنانيين، الذين يتوافدون إلى البلد بمعدّل 11000 وافد يومياً، بالإضافة إلى نحو 40 في المئة من اللبنانيين الذين ينقسمون بين مَن يتقاضون رواتبهم بالدولار بالقطاع الخاص، ومَن يتلقون حوالات مالية من أهاليهم أو أقاربهم.
الفقر بازدياد
وفي مقابل مشهد النشاط السياحي وازدحام المطاعم والمقاهي والإقبال الكثيف على الحفلات الفنية، ثمة أرقام تكشف زيادة مستويات الفقر في لبنان. فالبنك الدولي حين قدّر نسبة الفقراء في لبنان بثلث اللبنانيين حدّد موضعهم دون خط الفقر، وأكد زيادتهم أضعاف ما كانوا عليه. كما لم يلحظ في دراسته منطقة الجنوب. وأكثر من ذلك تم إعداد الدراسة عام 2023 قبل اندلاع الحرب مع اسرائيل. ما يؤكد أن أرقام الفقراء الحقيقية اليوم تزايدت بشكل ملحوظ.
وأكثر من ذلك فقد وضعت الأمم المتحدة مؤشرات للفقر في لبنان متعدّد الأطراف، ويتجاوز الفقر النقدي ليشمل العجز عن تأمين الخدمات الأساسية، كالماء والكهرباء والانترنت والنقل وغيرها. وانطلاقاً من معايير الأمم المتحدة، يصل مستوى الفقر في لبنان إلى قرابة 80 في المئة.
وبعيداً عن أرقام الفقر الحقيقة ومؤشراته، يكفي عرض معدلات رواتب موظفي القطاع العام التي يبلغ متوسطها 250 دولاراً فقط، في مقابل حاجة العائلة المكونة من 4 أفراد إلى نحو 600 دولار شهرياً لتأمين الحد الأدنى من كلفة معيشتها.
وهذه الفئة تحديداً، فئة الموظفين الفقراء، تُغيَّب من مشهد الفقر الذي يرسمه اللبنانييون في مخيلاتهم، فلن نجد موظفاً متسوّلاً على قارعة الشارع، أو موظفاً يُعلن عن عجزه تأمين معيشة عائلته. لكن من الممكن الجزم بأن لا قدرة للموظف على حضور حفلة فنية لأي من الفنانين المذكورين أعلاه أو الدخول إلى أحد المطاعم او المقاهي.
من هنا، لا يمكن استبعاد مئات الآلاف من الموظفين الذين تنعدم قيمة رواتبهم، من شريحة الفقراء العاجزين عن الإندماج في موجة “سياحة المطاعم والمقاهي والحفلات الفنية”.
عزة الحاج حسن- المدن